في كتابه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للإمام شمس الدين الذهبي الذي يعدّ من أهم المصنفات في علم الجرح والتعديل، ونقد رواة الحديث والآثار، يفرد المصنف في ختامه بابا بعنوان "فصل في النسوة المجهولات"، ثم كتب تحته عبارة مثيرة للانتباه، حيث قال: "وما علمت من النساء من اتهمت ولا من تركوها"، ويقصد الذهبي أنه لم يعرف امرأة ممن روين الأحاديث النبوية، قد اتهمت بالوضع والكذب، واختلاق الحديث، أو تُركت لعلة قادحة في روايتها، والمفارقة هنا أن هذه الجملة وضعها الذهبي في ختام كتابه الكبير الذي كان عنوانه الرئيس في "نقد الرجال"، وبيان من اتهم منهم بالوضع، أو حكم عليه بالضعف ونحو ذلك، وكأنه بذلك يريد أن يقول إن أولئك النسوة حتى وإن كن مجهولات غير معروفات، فإن الأصل أن النساء بإجمال ثقات، لم يعهد عليهن كذب ولا علة في رواية الحديث. والمقصود بالمجهول في الحديث هنا هو من لم يُعرف عينه، أو حاله، مثل مَن لم يثبت تحقّق وجوده حقيقة، أو من لم يرو عنه غير واحد، ونحو ذلك، فهذا الراوي يعتبر في عرف علم الحديث "مجهولا"، على اختلاف بين المحدثين في حكم الرواة المجاهيل، كل حالة بحسبها.
لكن نتوقف هنا قليلا عند مقولة الذهبي "النسوة المجهولات"، ونستعير هذه المقولة من علم الحديث، ونذهب بها إلى التاريخ الثقافي، وحركة العلم في التاريخ العربي والإسلامي، حيث نجد أن هناك قدرا هائلا من أولئك "النسوة المجهولات" اللواتي كان لهن دور كبير في نقل المعرفة الدينية، والأدبية واللغوية، والتجريبية أيضا، لكن ذكرهن قد اندثر وتوارى بين صفحات الكتب، وأصبح موضوعا مجهولا، لا يرقى لكثير من العناية والاهتمام، حتى ظن الكثير أن العلم والمعرفة والتصدر للفقه والفتيا ورواية الحديث، بل والتفنن والإبداع في اللغة والأدب، وفي العلوم التجريبية والرياضية، هو حكر على الرجال فحسب!