هذه المرة تروي كاميلا حكاية نانا، في بناء سردي حول الواقع السياسي في أندونيسيا بين أربعينات وستينات القرن الماضي، وما تبعه من بؤس جماعي وفردي، ومن خلال ذلك تقدّم معالجة بصرية شاعرية رومانسية لكيان المرأة المتقاطع والمتعدّد الأوجه كناجية وأم وزوجة وسيدة أعمال.
سابقا
تدور أحداث الفيلم في منطقة جاوة غرب أندونيسيا خلال الستينات، وهي فترة تغيير سياسي واضطراب دراماتيكي، عندما تقاتلت القوات الحكومية والجماعات المتمرّدة وأدّى ذلك إلى عمليات تطهير عرقي عنيفة.
بطلة الفيلم نانا (تقوم بالدور هابي سلمى) تفرّ مع طفلها الرضيع للنجاة بحياتهما، بعدما اختُطف زوجها واقتيد إلى الغابة، وتواترت أنباء عن مصرعه، ثم قتل والدها نتيجة أعمال التطهير ضد الشيوعية في البلاد -وهو مصير قد ينتظرها إذا رفضت الزواج من زعيم إحدى الجماعات المتمردة.
تُظهر افتتاحية المشهد أعلاه جزءا من تاريخ أندونيسيا وكذلك مكانة المرأة في تلك الحقبة حيث لم تزل محاصرة في مجتمع أبويّ مستبدّ يضعها في المنزلة الثانية.
الآن
بعد مرور 15 سنة على هروبها من الغابة ووفاة طفلها، نرى نانا تعيش حياة مريحة كزوجة لتاجر ثري يكبرها سنا، دارجا، يؤدي الدور (أرسويندي بينينج سوارا)، وكأم لثلاثة أطفال.
في مرحلة "الآن"، نانا امرأة تهتم بشؤونها المنزلية، وما أطول المشاهد التي تدبّر فيها ذلك! تفاصيل تظهر في الحركة البطيئة حيث تنغمس عدسة الكاميرا في اللمسات الجمالية مثل تنسيق الحديقة، وترتيب الغرف، والطهي، وتزيين مأدبة العشاء، وتسريح شعرها الطويل الذي لا نراه منسدلا إلا في أحلامها. في غضون ذلك تشاكسها طفلتها بالأسئلة عن شعرها وهي ترى والدتها تقوم كل مرة بلمّه الى الوراء بإحكام، تبتسم نانا لفضول ابنتها وتهمس لها "إن المرأة دائما لديها أسرار، وغالبا ما تخبّئها في شعرها". أمام هذا الانغماس الجمالي المغلف بموسيقى تصويرية أخاذة، يظهر في المقابل ضعف نانا في إدارة حياتها الشخصية، في حين أنه لا يزال الكثير من الناس من حولها يعتبرونها امرأة ريفية تسعى فقط إلى ثروة زوجها.
نانا تحرّك الجماد وتتلهّى به في أنحاء الغرف وتتنزه في السوق الشعبي لأجل قضاء الحاجيات بينما تقبع في قيود الحياة المنزلية، وتأتي ذروة الخضوع عندما تدرك أن زوجها على علاقة بسيدة أخرى، فلا تنتفض بعنف، مُدينةً تصرّفه، كما لا تذرف دمعة واحدة، بل تختار تنمية نوع غير عادي من الثقة التي تخلق مساحة هادئة جدا، قد يكون قلبها مكسورا، لكنّ زوجها بدوره ربما يتألم هو الآخر من هذه الخيانة، إذ نرى في سلوكه الرغبة في احتوائها واحترامها. هدوء مربك بين الشخصيتين وثرثرة غير معلنة في النظرات الساهمة، وبينما هو ينخرط في علاقة مع امرأة أخرى، ليس في وسع نانا إلا ممارسة الصمت واللجوء إلى الحفاظ على المظاهر والتصرف كأنّ شيئا لم يحدث، "يجب أن أكون مثل الماء أتأقلم مع البيئة"، كما تقول مناجية ذاتها.
نكتشف حالة الشجن السرمدية لدى نانا من خلال مشاهد كوابيسها الليلية، حيث تظهرها امرأة مسكونة بماضيها ومنفصلة تماما عن حاضرها حتى في غمرة أنشطتها اليومية العادية. تلعب المشاهد التخييلية دورا مهما في حياتها فهي تربطها وجدانيا بالشخصيات الغائبة في الفيلم (زوجها الأول وعائلتها) وتحدد المرجعيات الزمنية التي تساعد المتفرج على تتبع الحكاية.
أثرت المخرجة فيلمها بالاستعارات، ويؤكد سرد ذلك واقع المرأة في ذاك العصر، حيث حقائقها محصورة في العقل الباطن الصامت والصادق. تظهر في أحد تلك الأحلام بقرة تدهم منزلها وتتجول في الغرف الخاصة، من هنا تكتشف أخيرا هوية المرأة، عشيقة زوجها، تدعى إينو (لورا باسوكي) مالكة ملحمة في السوق المحلي، تبدأ بلقائها دون الرغبة في المواجهة بل فقط لمعرفة مفاتيحها العاطفية، أي نوع من النساء يمكن أن تكون إينو.
مشهد مهم يسجل كيف اختارت نانا أن تكون بمفردها في المنزل عندما تنشط العروض الفنية والترفيهية التي يقيمها زوجها في حديقة المنزل، تقترب منها العشيقة، وتهتم بترتيب مظهرها، تتبادلان الأحاديث الودية والمواساة العاطفية، يولد فرح غريب في عيني نانا إذ تجد الطمأنينة في دفء الشخصية عينها التي قد تدمّر أسرتها. جلسة سمر لا تخلو من البوح الحذر والملغز، هذا الغموض يضفي طابعا إنسانيا بسبب مصيرهما المشترك، وبتقديم الدعم إحداهما للأخرى كامرأتين.
لاحقا
تبدو هذه المرحلة اللاحقة من الفيلم محاكاة شديدة التقارب مع الفيلم الياباني الأيقوني الشهير In the Mood for Love وهو ما نراه متجسدا في السرد البصري عند ظهور إيسانج (يؤدي دوره ابنو جميل) زوج نانا الغائب منذ زمن، الذي يتتبعها في أحد الأزقة قبل أن يباغتها، حتى الانتقال إلى المشهد التالي وهو جلوسهما معا في مقهى.