قبل سنوات طويلة رغم يقيننا بأن صديقنا غادرنا في حادث سيارة في أبوظبي، إلا أننا بقينا موقنين ومتأكدين في أعماقنا بأنه انتحر. إذ لا يمكن لذلك الشاب الفائق الحساسية، والذي يعيش في الثمانينات إلا أن ينتحر في مواجهة مجتمع قاسٍ لا يرحم.
كان جو عازف بيانو، رقيقا، كريما بشكل لا يصدق، لا نجرؤ أن نبدي إعجابنا بقميصه لأنه سيخلعه ويصمّم أن نقبل هديته. ما زلت أتذكره وأصفه بروح هائمة بلغت مستقرا قبل أن يبلغ الرابعة والعشرين من عمره، كانت سنوات عذاب هائل بالنسبة له.
منذ ذلك الوقت قبل أكثر من ثلاثين سنة أنظر للمنتحرين على أنهم طائفة مترفعة عن الحياة، أجسادهم الضيقة لا تستطيع حمل أرواحهم الثقيلة التي يجب تحريرها لتطير في فضائها المفتوح.
لا يوجد مجتمع دون منتحرين، مهما كانت صفات هذا المجتمع وخصائصه ومستواه الطبقي وديانته، والبلدان العربية وسوريا من ضمن البلدان التي لم تتخلف عن حصتها في تسجيل حالات الانتحار رغم تحريمه.
كثيرا ما تبجح الذين يهاجمون الغرب بنسب الانتحار العالية، ينسبونها للسأم والفراغ الروحي والتفكك العائلي في المجتمع الغربي حسب ادعاء أنصار الأخلاق الذين لا يتركون وسيلة لتزوير الحقائق والترويج لمعلومات كاذبة عن مجتمعات لم يعرفوا شيئا عنها، واستخدام كل المنابر ووسائل التواصل الاجتماعي للمساهمة في حملات تضليل لانهاية لها.
دوما كانت أسباب المنتحرين السوريين مختلفة عن المنتحرين الدانماركيين مثلا، خاصة اليوم أو في السنوات الخمس الماضية، لكن هناك روابط مشتركة بين فئة المنتحرين، أقلها حساسيتهم الفائقة وعالمهم النفسي الهش. نادرا ما ينتحر شخص غبي، أو سارق قوت شعبه، أو قاتل.
خلال السنوات العشر الماضية تأملت في تطور أسباب الانتحار السوري الذي فاقت أرقامه المعلنة أي زمن آخر من تاريخ سوريا، في عام 2013 أو 2014 لم أعد أذكر بالضبط، علقت فتاة منتمية لعائلة دمشقية عريقة مشنقتها على سطيحة منزل عائلتها المطل على شارع مشروع دمر المزدحم، الذي يعتبر واحدا من أحياء المدينة الراقية، أشعلت ضوء السطيحة وانتحرت ببساطة، أرادت أن تعلن موتها بطريقة تراجيدية، كأنها تمثل مشهدا سينمائيا، أو تشارك سكان مدينتها الموت المجاني الذي كان ينتشر في كل زاوية. تكرّرت حالات الانتحار التي لم تجد في الحرب أي صدى، لم يكترث أحد للكثير من المنتحرين الذين مضوا في غفلة من زمنهم ومن الآخرين المقربين منهم.
لكن المدهش في الأمر تطور أشكال وأساليب الانتحار نفسه خلال السنوات الخمس الماضية، فظهر الانتحار الجماعي نتيجة مباشرة للجوع الذي يتربّص بالسوريين، واليأس من حل قريب ينهي مأساتهم. العيش في الزمن المعلق موت من نوع آخر، يشبه بشكل أو بآخر فكرة الانتحار الجماعي.
كثيرا ما تبجح الذين يهاجمون الغرب بنسب الانتحار العالية، ينسبونها للسأم والفراغ الروحي والتفكك العائلي في المجتمع الغربي حسب ادعاء أنصار الأخلاق الذين لا يتركون وسيلة لتزوير الحقائق
اعتقدت دوما بأن الشعوب حين تفقد أملها تبحث عن شكل مدوي لإعلان موتها، واعتقدت بأن السوريين يحتاجون إلى ثقافة تمجّد الانتحار ولا تدينها.
قبل أقل من شهرين تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خبر انتحار عريس جديد، فاجأ عروسه حين أخبرها بأنه في طريقه إليها ومعه هدية ثمينة، قتلها وانتحر، وقبله سُجّلت حالات عديدة من الانتحار الجماعي.
تغيرت وجهة نظر المجتمع في الانتحار، لم يعد الفعل مستهجنا، نسبة كبيرة من السوريين تتغزل بالموت، تعتبره خلاصها الجمعي، وأعتقد بأن السنوات القادمة إن لم تحمل حلا عادلا لسوريا سيكون الانتحار فعلا يوميا لمجموعات كبيرة من البشر لن ترضى أن تموت وتتلاشى من الجوع، قد تظنون بأنني أبالغ في توصيف هذه الحالة، لكن المراقب لحالات الانتحار في السنوات الخمسة الماضية يلاحظ انسجاما في اعتبار الانتحار فعلا يائسا، واحتجاجا حقيقيا على سوء الأوضاع، وإلا كيف نفسر قتل رجل لأولاده وزوجته ونفسه، وهذا حدث مرات كثيرة خلال السنوات الخمسة الماضية، والأهم أنه حدث في كل مناطق سوريا، التي تحت سيطرة النظام أو التي خارج سيطرته.
لو تأملنا الانتحار السوري وحاولنا دراسة حالاته المعلنة أو التي وصلت إلى العلن تحت تأثير أي ظرف، والتي لا تتجاوز نسبتها العشرة بالمئة، بينما نسبة التسعين في المئة بقيت مخفية، سرية، جرى التغطية عليها، نلاحظ أنه قبل الحرب كانت حالات الانتحار تحدث لأسباب واضحة من بشر رقيقين، مؤهلين لهذا الفعل رغم جبروته، نعدد الأسباب التي نعرفها جميعا، فشل عاطفي، فشل دراسي، ضغط اجتماعي، ظلم داخل العائلة، وأسباب أخرى قليلة، أبطالها شباب صغار وفتيات يعيشون في مجتمعات محافظة وبيئات لا تسمح للفتاة في التعبير عن نفسها، أو اختيار شريك حياتها، غالبا ما تكون الأسباب هزيمة فردية لشخص حساس، في مجتمع ظالم.
وحالات الانتحار الجماعي قليلة جدا.
اليوم اختلفت الأسباب والاعداد، حتى لو بقيت النسبة العظمى ما زالت مخفية لعدم وجود إحصائيات، ولمنع تداول هذه الأرقام، ولغياب مرصد فعّال لمثل هذه الحالات، يصبح الفعل "السامورائي" (من "الساموراي") علنيا، ليؤدّي رسالته، لا يمكن لأي كائن منا تخيل وضع وحجم هزيمة رجل يقتل أطفاله وزوجته ثم يقتل نفسه، في إعلان موت جماعي. كما لا يمكن لنا اعتبار هذه الحالة شخصية لا تخصنا، إنها جرس إنذار يجب التعامل معه بأقصى الجدية. لكن اليأس العام يعلن أيضا ويتساءل من الذي سيتعامل مع حالات قتل النفس الجماعية في بلد بلغ عدد ضحاياه أكثر من نصف مليون قتيل.
المدهش في الأمر تطور أشكال وأساليب الانتحار نفسه خلال السنوات الخمس الماضية، فظهر الانتحار الجماعي نتيجة مباشرة للجوع الذي يتربص بالسوريين، واليأس من حل قريب ينهي مأساتهم
ما زلت أذكر حين كنا نسعى لاكتشاف خطواتنا الأولى في طريق الكتابة، كنا مولعين بالحديث عن المنتحرين، وشكل انتحار خليل حاوي الواضح والصريح، وطريقته التي جرى تداولها، "انتحر ببارودة صيد قرب البلوعة كي لا يعذب والدته في تنظيف البيت"، كانت بالنسبة لجيلنا فعلا ملهما، خاصة أن هدفه المعلن كان احتجاجه على وصول الإسرائيليين إلى بيروت عام 1982، لا يمكن تخيل طريقة أفضل للإعلان عن هزيمة أمة بكافة رموزها.
لا يمكن أن أنساه، كما لا يمكن تعداد قصائد المديح والتبجيل التي كتبها الشعراء من أبناء جيلنا لهذا الفعل الاحتجاجي غير المتوقع على الأقل من رجل كان صوته خافتا. حتى الآن أتساءل لماذا لم نبحث عن أسباب انتحار مبدعينا كما فعلنا مع سيلفيا بلاث وفرجينيا وولف.
على عكس انتحار خليل حاوي الصريح والمعد له من قبل، كانت طريقة الرسام السوري الكبير لؤي كيالي، الذي تناول حبوبا مهدئة وهو يدخن سيجارته الأخيرة، ليحترق ويموت بطريقة ملتبسة لا يمكن الجزم بها. لكن بالنسبة إلى قراءتي لما فعله، فقد اختار الموت البطيء الذي يشبه نوما أبديا هانئا، آلام لؤي كيالي العظيمة حولته إلى قربان حقيقي لجيل كامل لم تستطع حساسيته الهائلة التعايش مع حياتنا القاسية.
اليوم أتأمل من حولي، أرى العشرات، المئات، آلاف السوريين اليائسين، لقد خرجت كل سبل الحياة من يدهم، تحولوا إلى مشاريع منتحرين مؤجلين، لا يمكن الخلاص سوى في مغادرتهم البلاد التي تتحول كل يوم إلى رماد.