تتناول الرواية عالم المكتبة بشيءٍ من التفصيل، فيتحدّّث الكاتب عن الكتب والمخطوطات ويورد آراء تخص الترجمة والمترجمين على لسان سيد الأهل، إحدى شخصيات الرواية، كما يعلّق على بعض الكتب التراثية التي تلفت نظره مثل حي بن يقظان. من شخصيات الرواية الثرية حنّا الناسخ، الذي تقضي مهمته بتصوير عدد من الكتب من خلال كاميرا خاصة، وكيف يواجهه أحد رواد المكتبة عندما يشك في أنه يقوم بتصوير "وثيقة وقفية المكتبة" التي يمكن أن تجعل من يمتلكها مالكا لها.
في النهاية تبدو الرواية واضحة في رسالتها التي تشير إلى تراجع الاهتمام الرسمي بالكتب والمكتبات والثقافة عامة، وأن المجال لم يعد مناسبا للاهتمام بالثقافة والعلم ولو ظاهرا، فالمشاريع الحكومية الإنشائية مقبلة ومتحقّقة لن تعطلها مكتبة أو مدرسة. وهو الأمر الذي يمكن أن نجد له صدى أكبر اليوم بعد مرور نحو عشرين عاما على كتابة هذه الرواية مع ما انتشر أخيرا من مظاهر قطع الأشجار وهدم المقابر والمناطق الأثرية من أجل توسعة طرقٍ أو إنشاء جسر.
"معبد أنامل الحرير"... مكتبة متخيلة
في رواية إبراهيم فرغلي "معبد أنامل الحرير"، "منشورات ضفاف" 2015، نحن إزاء عالم آخر متخيّل بالكامل، حيث "رواية" تحكي عن صاحبها/كاتبها رشيد الجوهري الذي اختفى، وتستنطق ما كتبه فيها، كأنها رواية داخل رواية. تدور أحداث وعوالم وشخصيات في المستوى الأول، وتتقاطع معها أحداث أخرى مختلفة وشخصيات أخرى في مستوى ثانٍ، ويبقى القارئ بين المستويين مشدود النفس مستمتعا بذلك الانتقال بين العالمين وتفاصيلهما الثرية.
أحد هذين المستويين يبدو شديد الصلة بحالة المستوى الأول، وما يمكن أن نعتبره "دور" الكتابة والرواية في العالم والموقف منها. يكشف رشيد الجوهري في ما تحكيه روايته، عن عالمٍ متخيّل فرضت فيه سطوة "المتكتّم" الذي هو بمثابة "الرقيب" على الأعمال الإبداعية سواء أكانت روايات أو أفلاما أو حتى كلام الناس، لينتقل الناس إلى "مدينة الظلام" تلك التي يهربون فيها ومن خلالها بأعمالهم بعيدا من سيطرة "المتكتّم" ورجاله! يتطوّر الأمر إلى أن أتباع "المتكتّم" (الرقيب) لم يعد لهم عمل بعدما أحرقوا الكتب وأغلقوا دور السينما والمسارح والأنشطة الثقافية كافة، وأصبح الأمر مقتصرا على بعض التظاهرات المؤيّدة للمتكتّم من أنصاره المنافقين ومؤيّديه المنتفعين، لذلك لم يعد أمامهم سوى أن يحصوا أنفاس الناس وأن يتنصّتوا على ما يقولون!
لا تكتفي الرواية بسرد حكايتها الخاصة، بل تتحوّل في حالاتٍ كثيرة إلى حالة "السارد العليم" الذي يحيط بشخصية كاتبها (يتحوّل من كاتب إلى بطلٍ تحكي عنه) ويعرفنا بأدق تفاصيل حياته، وهي إن كانت تقطع حكايتها عبر زمنين، الزمن الحالي (نراقب فيه كل من اقترب منها أثناء غياب صاحبها، والأيدي التي تناقلتها وعبثت بصفحاتها) والزمن الماضي (تنقلنا فيه إلى حكاية صاحبها قبيل وأثناء كتابتها) فإننا نلحظ أنها في ذلك الزمن الماضي أكثر دراية وتحررا وإحاطة بالكاتب، من زمنها الحالي الذي اقتصرت فيه الحكاية على معلومات يمكن وصفها بالمشاهدة.
هكذا تكشف "الرواية" عن حيل المؤلف، الذي يبدو في هذا النص قد مات بالفعل. فالرواية من بدايتها حتى نهايتها لا تعثر عليه، بل يبدو أنها تحوّلت إلى "لعنة" تصيب كل من يحصل عليها. لكنها تقوم هنا بدور الناقد الذي يحلّل ويفسّر ظهور شخصيات في النص، وتحولّها إلى "معادل موضوعي" لشخصيات حقيقية تعرّف إليها الكاتب في واقعه!
يغوص القارئ على حكاية رشيد وتقلباته، بين عالم "المتكتم" السري المتخيّل الذي تحكيه الرواية ثم تفاصيل حكاية ضياع الرواية من كاتبها وعلاقتها بمنقذها، حتى إنه يُفاجأ بغياب المعبد الذي جاء اسما للرواية حتى ثلثها الأخير تقريبا، والذي تكشف لنا فيه الرواية عن "أنامل الحرير" ذلك "المعبد"/ المكتبة... ذلك الصرح الذي أنشأه الناسخون لكي ينقذوا ما أُتلف:
"المكتبة بما تحويه من المعرفة بدت صرخة حق، توجّه كلماتها ساطعة إلى الرقيب المتكتم قائلة: إن كل كتاب تعرّض للطمس والنفي والحرق موجود هنا ليشير إلى كذبك أيها المتكتم المدعي، معلنا وجوده من جهة ومشيرا إلى الجرائم البشعة التي تمارسها أيها المتكتم بدمٍ بارد، المكتبة هنا تعلن للعالم أن الرقيب هو المجرم الحقيقي لا المعرفة ولا الحياة بكل ما فيها!".
هكذا تظهر المكتبة في آخر الرواية التي سمّاها الروائي "معبد أنامل الحرير"، في إِشارة واضحة الى الدور الذي تقوم به من أجل الحفاظ على الكتب والكتّاب، ويفترض بقاء هذا الدور حلا أخيرا للعالم الشديد السوداوية الذي سينتهي إليه البشر. تبدو الرواية بشكلٍ عام مشغولة بأسئلة الهوية وطريقة اكتشاف الذات، من خلال رحلة/ رحلات مع شخصياتها وأحداثها، يغيب فيها بطلها الرئيس لتبرز شخصيات أخرى نتعرف إليها تدريجيا وذلك من خلال ثلاثة مستويات سردية يحرص الكاتب على أن يجعل في كل مستوى منها علاقة ملتبسة بأنثى. نجد في متن الرواية "المحكية" علاقة بين كيان وسديم، وفي حكاية الرواية علاقة بين رشيد وأكثر من شخصية نسائية أبرزها وأكثرها ثراء علاقته بيوديت. وفي الواقع الذي تعيشه الرواية وتدور حوله، تنشأ علاقة بين "منقذها" قاسم وفتاة أثيوبية هي ميهيريت. ندخل عوالم هذه الشخصيات الثلاث على اختلافها، وينجح الكاتب في أن يعرض جوانب من تلك الشخصيات وكيفية تعامل كل واحدةٍ منها مع ذلك الآخر/الرجل في فترات متباعدة.
"المكتبة السرية والجنرال"... صراع الثقافة والسياسة
تبدو رواية خيري الذهبي "المكتبة السرية والجنرال"، "دار الأهلية" 2018، أمثولة أخرى عن المكتبة التي تتسع دلالتها لكي تشمل ذاكرة الشعب والأمة بأسرها، ولذلك يسعى الحاكم الديكتاتور (الجنرال) إلى التحكّم بها والسيطرة عليها أو اخفائها. تبدأ الرواية من كتاب قبل المكتبة؛ كتاب واحد يحمل نبوءة نهاية عصر ذلك الحاكم، وهو كتاب "الجفر" الذي تُصادر كل نسخه بل ويعمل الحاكم من خلال جهازه الإعلامي على نشر نسخة مزورة منه تتنبأ بازدهار عصره، ولكن تبقى نسخة أصلية واحدة في مكتبة اليازجي، تلك المكتبة السرية التي يسعى للوصول إليها بكل طاقته وبكل الوسائل المتاحة، وعندها يستغل الراوي/السارد مهاراته ليحوّل المكتبة وموضوعها إلى أسطورة عصيّة على المواجهة. يقول على لسان الطاغية:
"لن نستطيع حكم هذا البلد إلا لو سَلّم طواعية، وبيت اليازجي أصبح اليوم الراية الأخيرة لرفض التسليم… أعتقد أنك تتساءل: فلم لا نحرق الحي، وسكانه وكتبه، وكل ما تظنونه تميمة خلاصكم الخاصة، ناسين أننا اليوم في القرن الحادي والعشرين، ونملك من وسائل التدمير ما لم يفكر به حتى إبليس، وانحنى عليّ هامسا: نحن نتبناكم اليوم… لقد ورثناكم أحياء، وإن تفاخرتم بكثرتكم العددية، فسنخفضكم إلى الربع مزيحين كل المشاغبين، الرافضين لحقنا في الحكم… والمكتبة… كنزكم الذي تعتزون به… إما أن تستسلم لنا فنتبناها، أو نحرقها حتى الرماد… هل فهمت؟".