إردوغان في سوتشي... فشل لعبة التوازن

الروابط الشخصية بين بوتين وإردوغان أخفقت هذه المرة في تحقيق النتائج المرجوة

Shtterstock
Shtterstock

إردوغان في سوتشي... فشل لعبة التوازن

عندما توقفت سيارة الرئيس إردوغان عند مدخل القصر الرئاسي في سوتشي، بدا الأمر شبه طبيعي؛ إذ كان الرئيس فلاديمير بوتين في استقباله وهو يبتسم. وكانت الترتيبات مألوفة؛ فقد كان إردوغان الشخصية الأحدث في سلسلة طويلة من الشخصيات الأجنبية البارزة التي جاءت لعقد لقاء قصير وجها لوجه مع الرئيس الروسي؛ ففي منتجعه الرئاسي الذي يقع على البحر الأسود، التقى الرئيس الروسي بشخصياتٍ من أمثال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي (آنذاك) نفتالي بينيت، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وذلك ضمن كثير من الزعماء الآخرين الذين مروا على هذا المنتجع.

ومع ذلك، كان ثمة أمر غريب للغاية في هذا اللقاء بين أحد أعضاء الناتو مع الرئيس الروسي؛ فقبل ساعات قليلة من ذلك اللقاء، كان جيش بوتين يشن هجوما على ميناء إسماعيل الأوكراني، وأصابت الطائرات المسيرة الروسية أهدافا تقع على بعد أمتار قليلة من رومانيا، وهي عضو آخر في حلف شمال الأطلسي، بل ربما أصابت أهدافا حتى في رومانيا ذاتها.

وعلى بعد مئات الكيلومترات من سوتشي، صعد الجنود الروس عنوة على متن ناقلة مملوكة لتركيا ومتجهة إلى أوكرانيا، وهو فعلٌ كان من الممكن أن يطلق عليه كثيرون عملا من أعمال القرصنة في البحر، لكن أنقرة ترددت كثيرا في وصفه بذلك.

وفي الجانب الروسي، فشلت فخامة الديكور في إخفاء التصدعات التي ظهرت داخل روسيا ذاتها، وهو الأمرُ الذي حول اللقاء بين إردوغان وبوتين إلى لقاءٍ بين طرفين على قدم المساواة في الأهمية؛ فروسيا التي زارها إردوغان هي دولة أنهكتها حربها التي أخفقت في الفوز بها، بل والتي يمكن أن تخسرها أيضا. وهي دولة يتدنى باستمرار عدد شركائها وحلفائها. وفوق هذا وذاك، قبل بضعة أسابيع فقط، اقتحم بريغوجين الذي كان وقتها يضجّ بالحياة، مدينة روستوف التي تقع جنوبي روسيا وأطلق تمرده سيئ السمعة، الأمر الذي ألقى بظلال من الشك حول ما إذا كانت القيادة الروسية ستظل موحدة. ولكن– بطبيعة الحال– عندما توقفت سيارة إردوغان أمام قصر بوتين، كان هذا الأمر قد "حُسم"، بوفاة بريغوجين في الوقت المناسب.

لكن أليست هذه هي الدبلوماسية؟ زعيمان يجلسان لمناقشة المسائل العالقة. أما فكرة أن "القضايا مع روسيا يمكن حلها، إذا ما وافق أحدهم على الجلوس مع الرئيس بوتين وحسب"، فقد راودت الزعماء الأوروبيين والأميركيين منذ فترة طويلة. وفي الواقع، لا يزال بعضهم يفكّر في ذلك. وهو ما قام به إردوغان، وقد جاهد الزعيمان في سوتشي لتصوير علاقتهما على أنها "خاصة" وشخصية، فكان إردوغان يصف في بعض الأحيان الرئيس الروسي بأنه "صديقه". وفي الحقيقة، كان إردوغان أحد القادة القلائل الذين تحدثوا مع بوتين في وقت التمرد الذي قام به بريغوجين. وكان في قيامه بهذا قد ردّ دَينا قديما؛ فعندما واجه إردوغان ذاته انقلابا عام 2016، كان الرئيس بوتين أحد القادة القلائل الذين اتصلوا به، وذهب به الأمر إلى حد أن عَرض عليه مساعدة القوات الروسية.

الروابط الشخصية بين بوتين وإردوغان أخفقت هذه المرة في تحقيق النتائج المرجوة؛ فعلى الرغم من تصريح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن "ساعتي الرئيسين متزامنتان"، إلا أن أنقرة وموسكو بدتا وكأن كلا منهما تعيش في منطقتها الزمنية الخاصة بها

على أن الروابط الشخصية بين الزعيمين أخفقت هذه المرة في تحقيق النتائج المرجوة؛ فعلى الرغم من تصريح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن "ساعتي الرئيسين متزامنتان"، إلا أن أنقرة وموسكو بدتا وكأن كلا منهما تعيش في منطقتها الزمنية الخاصة بها.

وكان العنوان الأبرز في الزيارة هو صفقة حبوب البحر الأسود، وهي الصفقة المدعومة من تركيا، والتي ساعدت في التخفيف من أزمة الغذاء العالمية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، قبل أن تنهار في 17 يوليو/تموز، عندما رفضت روسيا تمديدها. وشنت موسكو منذ ذلك الحين حملة هجوم ضد الموانئ البحرية والنهرية الأوكرانية، فضلا عن قيامها بهجمات ضد قطاع أوكرانيا الزراعي.

وفي خضم هذه الأزمة، اتجهت الأنظار نحو إردوغان كوسيط محتمل. وبالفعل، ذكّر الرئيس التركي في تصريحاته في سوتشي بأن "عيون العالم" كانت شاخصة إليهما. لكن لم يكن هناك الكثير من النتائج التي يمكن رؤيتها، حيث فشل إردوغان في إقناع الرئيس الروسي بالعودة إلى الاتفاقية.

عوضا عن ذلك، أعاد بوتين التأكيد على شروطه للعودة إلى الاتفاق. ويسعى اقتراح جديد للأمم المتحدة إلى الاستجابة لبعض "مخاوف" الكرملين، ولكن سقف الشروط الروسية المسبقة أعلى من أن تُلبى. فأي استئناف للصفقة سيتطلب قدرا من المرونة من الجانب الروسي، وهو الأمر الذي فشل إردوغان في تأمينه من بوتين.

 

وكان موقف بوتين صفعة على وجه إردوغان ولحظة خطرة بالنسبة لتركيا، التي عملت تحت قيادة إردوغان على التقليل من تداعيات الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، على الرغم من كون تركيا واحدة من الدول الأكثر عرضة لتلك التداعيات. ومن الناحية الاقتصادية، استفادت تركيا (إلى حد ما) من الزيادة في التجارة والسياحة الروسيتين. وكما ذكر الرئيس بوتين مرات عدة، فإن روسيا حريصة غاية الحرص أيضا على دعم جهود تركيا الرامية لأن تصبح "مركزا للطاقة"، وهو موقف تركي مُعلن منذ وقت طويل. واستفادت أنقرة أيضا من الغاز الروسي الرخيص، الذي تم توفيره بخصم أكبر، وبالمدفوعات المؤجلة. ووفقا لمنشور اقتصادي تركي، نقلا عن بيانات صادرة عن اتحاد الغرف والبورصات التركية (TOBB)، فإن المواطنين الروس أنشأوا أكثر من 2000 شركة في تركيا منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا الذي حصل العام الماضي.

وعلى الرغم من أن هذا التطور ربما أثار مخاوف في الدوائر الغربية، إلا أن دور أنقرة الفريد في الصراع، وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وحق النقض الذي تتمتع به ضد توسيع التحالف، إضافة إلى أهميتها الجغرافية، كل ذلك عوامل خففت من رد فعل أولئك الذين يسعون إلى عزل روسيا. ومن الناحية الدبلوماسية، تمكن إردوغان من تحويل علاقاته الموسعة مع روسيا إلى وسيلة ضغط محتملة على موسكو. علاوة على ذلك، يُعد هذا النفوذ التركي سببا آخر يكمن خلف استعداد الغرب للتسامح مع إقامة شراكة أكثر تشابكا بين روسيا وتركيا؛ فقد نصّب إردوغان نفسه كواحد من القادة القلائل الذين يحتمل أن يكونوا قادرين على انتزاع تنازلات من بوتين. ومن المؤكد أن إردوغان لم يوسع حجم دائرة المعجبين في الغرب في هذه العملية، لكنه جعل من نفسه شخصا لا غنى عنه. أقله حتى هذه اللحظة.

Reuters
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد محادثاتهما في سوتشي، روسيا، 4 سبتمبر 2023

ولكن لعبة التوازن المعقدة هذه تتطلب نتائج تنبثق عنها، وقد عاد إردوغان من سوتشي خالي الوفاض. وما زاد الطين بلة أن إردوغان بدا وكأنه يؤيد حجة الرئيس بوتين بأن التعنت الأوكراني هو المسؤول عن انهيار الصفقة المذكورة، بل إنه دعا كييف إلى "الـتخفيف" من موقفها. كما أنه قَبِلَ اقتراحا روسيا يقضي بإرسال الحبوب إلى تركيا بتمويل قطري، بغرض تصنيعها قبل أن تُوزع على الدول الأفريقية.

يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كان بوتين قد خدع إردوغان، واستدرجه إلى سوتشي من خلال تقديم إشارات بأن روسيا ستدخل مرة أخرى في صفقة حبوب البحر الأسود. لقد خُطط بعناية للعرض الذي أقامه بوتين وإردوغان على ساحل البحر الأسود الروسي، وكانت قد سبقته مجموعة من الاجتماعات، شملت فيما شملت زيارة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى روسيا، إذ جرت (آنذاك) مناقشة تفاصيل الزيارة المرتقبة للرئيس إردوغان، والصفقات التي قد يتوصل إليها الطرفان.

لكن في هذا خطأ أيضا في تشخيص العلاقة التي تربط بين كل من تركيا وروسيا. فعلى الرغم من أن صفقة حبوب البحر الأسود كانت على رأس جدول الأعمال، إلا أن قائمة المواضيع التي كانت موضع اهتمامهما كانت طويلة. فهناك الكثير لدى إردوغان وبوتين ليتحدثا عنه، إذ غالبا ما تتقاطع المصالح التركية والروسية، ولكنها نادرا ما تتوافق؛ ففي سوريا، على سبيل المثال، سعت تركيا في بداية الأمر إلى الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، الذي أنقذ التدخلُ الروسيُ كرسيَ رئاسته في عام 2015. وفي أعقاب تدخل موسكو، ضيقت تركيا نطاق مصالحها الأمنية، وانصب جلّ تركيزها على إزالة التهديد الذي تشكله وحدات حماية الشعب، وهي جماعة كردية تربطها علاقات بحزب العمال الكردستاني. ونفذت تركيا عمليات متعددة عبر الحدود بهدف ضمان طرد وحدات حماية الشعب. لكنها الآن تسعى إلى إيجاد حلٍّ طويل الأمد مع إمكانية استعادة الأسد، بينما تتخذ روسيا موقف الوسط في هذا الحل.

لعبة التوازن المعقدة هذه تتطلب نتائج تنبثق عنها، وقد عاد إردوغان من سوتشي خالي الوفاض. وما زاد الطين بلة أن إردوغان بدا وكأنه يؤيد حجة الرئيس بوتين بأن التعنت الأوكراني هو المسؤول عن انهيار الصفقة المذكورة

حل للصراع السوري، وخاصة الحل الذي يتماشى مع تفضيلات إردوغان، يجب أن يمر عبر موسكو.

بالإضافة إلى ذلك، تدرك روسيا الضغوط الداخلية المتزايدة في تركيا لحل الأزمة، وقد ضغط حلفاء إردوغان القوميون، على مدى السنوات القليلة الماضية، مستغلين المشاعر المتزايدة المعادية لسوريا، من أجل "إعادة توطين" اللاجئين السوريين في سوريا، على الرغم من الظروف المحفوفة بالمخاطر هناك؛ فإعادة التوطين المستدامة ستتطلب موافقة الأسد ودعمه، وهو أمر يدركه الرئيس السوري جيدا. بينما امتنع الأسد عن التسوية مع إردوغان، على الأقل علنا، ما دام إردوغان مستمرا في دعم الفصائل المتمردة في سوريا.

وبعيدا عن المسرح السوري، اشتبكت تركيا وروسيا في مجالات حاسمة أخرى. وفي ليبيا، تدعم تركيا الحكومة في طرابلس، بينما تدعم روسيا أمير الحرب المتمركز في الشرق خليفة حفتر، مما يؤدي إلى الخلاف. وقد تؤثر وفاة بريغوجين مؤخرا على الوجود الروسي في ليبيا، حيث لعبت مجموعة فاغنر التابعة لبريغوجين دورا بارزا في النفوذ الروسي. ومع ذلك، فإن الزيارة التي قام بها في الوقت المناسب مبعوث بوتين الجديد إلى أفريقيا، نائب وزير الدفاع يونس بك يفكيروف، قبل ساعات فقط من تحطم طائرة بريغوجين، تشير إلى أن خطط الطوارئ قيد التنفيذ بالفعل.

Reuters
جندي ارمني في ناغورنو كاراباخ في 11 يناير 2021

وفي القوقاز، دعمت تركيا حليفها القديم، الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في صراع ناغورنو كاراباخ، بينما، على الجانب الآخر، تشعر أرمينيا، المدعومة من موسكو، بعدم اليقين بشأن شراكتها الدائمة مع روسيا. وبشكل عام، سعت تركيا بشكل سري إلى توسيع نفوذها في القوقاز، واغتنام الفرصة التي يتيحها الصراع الأوكراني وتضاؤل قدرة روسيا على ممارسة القوة في المنطقة.

وفي الختام، فإن زيارة إردوغان الأخيرة تؤكد أنه على الرغم من تراجع نفوذ روسيا، إلا أنها لا تزال تمتلك وسائل الضغط على الرئيس التركي وتأكيد نفوذها. ويسعى إردوغان إلى رفع مكانته العالمية من خلال التفاوض على اتفاقيات حاسمة مثل ممر الحبوب، ولكنه عرَّض نفسه بشكل متزايد للنفوذ الروسي، مما استلزم إجراء توازن دقيق بين الشرق والغرب للحفاظ على الاستقرار. والحقيقة أنه حتى أفضل الفنانين أداء في السيرك يتعثرون أحيانا، ولعْب إردوغان ليس استثناء.

font change

مقالات ذات صلة