أثرت الأزمة السياسية المحتدمة في إسرائيل التي تفاقمت مع صعود حكومة غلاة المتطرفين من اليمين القومي والديني، على المجتمع والدولة وعلى طبيعة النظام السياسي فيها. ويشمل ذلك علاقات الإسرائيليين ببعضهم ورؤيتهم لذاتهم ولدورهم في المنطقة، وصورة إسرائيل في الخارج وعلاقتها مع دول العالم.
لكن تلك الأزمة، التي تركزت في محاولات حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو تقويض مكانة ودور السلطة القضائية ممثلة في "المحكمة العليا" والتي اعتبرت تهديدا لطابع الدولة التي أقيمت على الفصل بين السلطات وعلى الديمقراطية الليبرالية التي تخص اليهود الإسرائيليين، وكإطاحة بعلمانية الدولة، أو حيادها إزاء الدين، رغم أنها أقيمت كدولة يهودية، مست أكثر شيء بالجيش الإسرائيلي (ومجمل المؤسسة الأمنية)، في صورته ومكانته، بعد أن كان خارج النقاش، وكموضع إجماع، كقدس الأقداس للإسرائيليين، لمركزيته للدولة والمجتمع.
في النتيجة فإن إقرار الكنيست في (24/7) لقانون "تعذر المعقولية"، الذي يعني وضع السلطة القضائية تحت هيمنة السلطة التنفيذية، بتقليص صلاحية المحكمة العليا، سيما ما يتعلق بالمراقبة القانونية لحكومة نتنياهو، بواقع حيازة الائتلاف الحكومي، المتشكل من اليمين القومي والديني، على 64 عضوا في الكنيست (من 120 عضوا)، كشفت الانقسام العمودي في إسرائيل، بحيث اعتبر هذا التطور بمثابة تهديد لطابع إسرائيل كدولة علمانية وديمقراطية.
هكذا كتب ألون بن ديفيد: "بعد 75 سنة من تأسيس الجيش الإسرائيلي أُجيز التشريع الذي سيسجل بداية لتفكيك الجيش". ("معاريف"، 29/7/2023).
جيش له دولة!
لطالما اعتبر الجيش الإسرائيلي عند الإسرائيليين بمثابة "قدس الأقداس" الذي لا ينبغي المساس به، إذ إن له أهمية تفوق أهمية الجيوش في الدول الأخرى. بمعنى أهمية وجودية، فوق أمنية أو سيادية، بسبب السياق التاريخي، اللا طبيعي، الذي أقيمت فيه دولتهم (1948). فإسرائيل نشأت، على خلاف معظم دول العالم، من نقطة الصفر في العلاقة مع المكان والزمان، ومع الأرض والشعب، إذ أنشئت المؤسسة الصهيونية في الخارج، ثم تم جلب السكان، أي اليهود، بالهجرة من شتى دول العالم، للاستيطان في فلسطين، بحيث أقيمت لهم المؤسسات السياسية والاقتصادية والخدمية، وضمنها العسكرية (الهغاناه، البالماخ، شتيرن، أرغون)، على حساب أهل الأرض الأصليين، وبالتصارع معهم. لذا تم التعاطي معه، في كثير من الأدبيات، كجيش له دولة، إذ إنه محور الدولة، أو عمودها الفقري، ومحرك معظم أنشطتها.
هكذا تعددت وظائف أو أدوار الجيش في إسرائيل، فعدا عن وظيفته الأمنية في حماية الدولة، فقد شملت صد أو وأد ما يعتبره الإسرائيليون خطرا وجوديا خارجيا يتهددهم، وهي المسألة التي شكلت محور العصبية والهوية عندهم، منذ أقيمت تلك الدولة. أيضا، ضمن أدواره تعزيز مكانة إسرائيل على الصعيدين الإقليمي والدولي، رغم صغر حجمها، وقلة عدد سكانها. ولعل أهم تلك الوظائف اعتباره بمثابة بوتقة الصهر الأساسية لهم، على اختلاف الثقافات والمجتمعات التي قدموا منها؛ هذا إضافة لدوره في الاقتصاد الإسرائيلي، وفي تعزيز علاقات إسرائيل مع دول العالم. ومعلوم أن كثيرا من قادة إسرائيل، كرؤساء حكومات وكوزراء، كانوا أصلا ضباطا كبارا في الجيش الإسرائيلي، كان من أبرزهم إيجال ألون وموشي دايان وإسحق رابين وإيهود باراك وآرييل شارون، وبني غانتس، مثلا.