هل يمكن لكاتب الدراما أن يكتب نصوصا خيالية بالكامل، بحيث لا يكون لما كتبه أي شبه بالأحداث والشخصيات الحقيقية؟ هل يمكن تعميم تجربة الفن التجريدي الذي يتعمد ألا يصوّر الأشياء كما هي في الواقع فينفصل الفن تماما عن الحياة؟ هذا هو السؤال الذي خطر ببالي وأنا أعيد متابعة مسلسل "لعبة العروش" وأعيد حرثه من جديد لعلنا نخرج بنتائج فيها شيء من الاختلاف.
خطرت بالبال فكرة هذا المقال، وأنا أتمعن في شخصية اللورد فاريس في المسلسل، فحين ننظر في قصته وصفة المستشار الأمين ومواقفه وطموحاته نجد شبها كبير بشخصية الفيلسوف الرواقي سينيكا وقصته، وعندما ننظر في السبب الذي مات لأجله نجد شبهاً آخر، وثمة شبه ثالث عندما ننظر في تمثال سنيكا فنجد أنه كان بدينا يحلق شعر رأسه، كما هو حال فاريس البدين الحليق الحكيم.
هذا المدخل سيقودنا إلى أن حروب الممالك السبعالتي استمتعنا بمتابعتها، لم تكن خيالية تماماً، بل إن كتّاب السلسلة كانوا يغرفون من بحر عظيم جعل عملهم أسهل، فهم يعتمدون على كتاب "أغنية للجليد والنار" لمؤلفه جورج مارتن الذي صرّح أنه يستمد الإلهام من تاريخ أوروبا وحروب ملوكها في القرون الوسطى، ومن أهمها "حروب الورود الإنكليزية".
ولا شك أيضا أن دخول الكاميرات إلى قصر باكنغهام وغيره من قصور الأسرة الملكية في بريطانيا قد جعل عمل الكاتب أسهل في تخيّل أسلوب الحياة ووقت تناول الوجبات والشاي وسائر التفاصيل الصغيرة. وعندما تنظر في هيئة الملكة سيرسي وقصة شعرها، فمن المحتمل أن تتذكر أن ليدي ديانا سبنسر كانت تقص شعرها بالطريقة نفسها، إلا أن سيرسي لا تشبه ديانا فيما يتعلق بالقسوة والعنف، لذلك شُبّهت سيرسي من قبل كثير من المعجبين بالمسلسل بالمرأة المستذئبة، الملكة إيزابيلا الفرنسية التي كانت قرينة الملك إدوارد الثاني وأنجبت له الملك إدوارد الثالث، ثم جلبت فرقة من فرنسا لاغتيال زوجها وإعلان نفسها أول امرأة تحكم إنكلترا، كوصية على ابنها.
لا يمكن لكاتب مهما بلغت عبقريته أن يتقدّم بسرد يقوم كلية على نسج الخيال، بل إن التاريخ العام وتاريخ الكاتب الشخصي هما مصدر كل عمل إبداعي
كل هذا دعاني للبحث عن "مشية العار" التي أجبر المتزمّتون من رجال الدين سيرسي على أن تمشيها إمعانا في إذلالها، وهل تستند إلى مرجع تاريخي أم أنها من نسج الخيال، فوجدت أنها كانت معروفة في أوروبا القديمة. ففي تاريخ القانون الفرنسي كان هناك نظام معروف في القرن الثالث عشر، يعرف باسم "كوستوما دي آجين"، وهذا يعني القوانين العرفية لمقاطعة آجين. ويقوم هذا القانون على الإهانة العلنية للزوجة وعشيقها كعقوبة للعلاقات خارج إطار الزوجية، حيث يربط الرجل والمرأة ببعضهما عاريين ويجبران على السير في شوارع المدينة، تتقدّمهما الأبواق ليراهما الجميع وليشاركوا في الضرب بالهراوات إن رغبوا في ذلك. ولم يغب عن كتّاب المسلسل أن يقوموا بتصوير التزمّت الديني الذي أذاق الناس العذاب في كل مكان وزمان، وكم هو مثير للعجب هذا التشابه الشديد في ممارسات هؤلاء الناس، ورغبة المتزمّت في تعذيب العصاة.
أشياء كثيرة في لعبة العروش لها امتدادها الحقيقي في التاريخ، بما في ذلك التنين الذي ينفث اللهب، فالتنين في المخيال الشعبي الأوروبي قديم، ولم يأت به مؤلف الكتاب ولا كتّاب السيناريو من عندياتهم.
بطبيعة الحال، ليس كل شيء حقيقيا ولا كل شيء يستند إلى مرجع تاريخي، فاستخدام الغربان لتقوم بدور الحمام الزاجل لم يحدث قط في التاريخ، لا في أوروبا ولا في غيرها، لكن ما الفرق؟ الغراب طير بحجم الحمامة، مثلما أن اليونيكورن هو حصان بجناحي إوزة، وليس خياليا تماما.
من النقاد من سجل نقاط كثيرة تختلف فيها صورة "ويستيروس" الخيالية عن تاريخ أوروبا الحقيقي، وأن أوروبا المسيحية كانت متدينة ومحافظة ولم تكن لتسمح بالحياة الإباحية التي يعيشها أهل ويستيروس. في مثل هذا يدخل خيال الكاتب وعمله واحترافيته، ليروي قصته الخاصة المختلفة وليبني شخصياته ويدعها تتطور وتتغير في بنائه الدرامي.
هنا نكون قد وضعنا الحدود بين العنصر الحقيقي في الدراما وفصلناه عن أخيه الخيالي، ليكون الاستمتاع عن وعي بما هو حقيقي وبما هو غير ذلك. الفن عموما هو شكل نوعي من أشكال الوعي الاجتماعي والنشاط الإنساني، وهو من أهم وسائل الاستيعاب والتصوير الجمالي للعالم، لكن لا يمكن لكاتب مهما بلغت عبقريته أن يتقدّم بسرد يقوم كلية على نسج الخيال، بل إن التاريخ العام وتاريخ الكاتب الشخصي هما مصدر كل عمل إبداعي.