ياس خضر: غريب في زمن الغربةhttps://www.majalla.com/node/298991/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%8A%D8%A7%D8%B3-%D8%AE%D8%B6%D8%B1-%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D8%A9
غيّب الموت الأسبوع الماضي ياس خضر، أحد أهم مطربي العراق المعاصرين، وأكثرهم تأثيرا وانتشارا والتزاما، مخلفا تجربة شديدة التفرّد امتدت ستين عاما.
تميّز ياس خضر بصوت ذي مساحة واسعة مكّنته من الإيفاء بأصعب الألحان، ونبرة شجن لا تقاوم، واحساس صادق في الأداء. كان التجسيد الصوتي للحزن السومريّ القديم المتأصّل في شخصية الفرد العراقيّ عبر التاريخ. فلا يمكنك أن تسمع له أغنية، إلا وشعرت بتأثير مباشر يقع في قلبك وقوع الفراشة في النار، والسهم في الأحشاء، بقوة تلك البحّة الآتية من قاع النفس المكلومة. صوت أصيل تتقاسمه القوّة والضعف، قوة الصوت الفيزيائية، وضعف الروح التي تتداعى في تضاعيفها الرثائية الملازِمة لبلاد الرافدين، كأنه يصل بخيط لا مرئي نواح العراقيات منذ مصرع تموز حتى آخر عراقيّ سقط في "انتفاضة تشرين".
حتى وأنت تسمع أغاني ياس خضر الإيقاعية، السريعة، فستلاحظ شعورا -لا إراديا- بالأسى يرشح من بين شفتيه وعينيه الحزينتين. ولا غرابة في ذلك لدى مطرب تشبّع بمساحات من الكدر والمكابدة الوطنية على اختلاف أزمنتها. فقد شهد "صوت الأرض" –أشهر ألقابه- كل مراحل الدولة العراقية الحديثة والمتباينة منذ الملكيّة، فجمهورية قاسم، ثم المرحلة العارفية، فمرحلة البعث، وعراق ما بعد 2003.
كان ياس خضر صوت الفرد المعذب في الأرياف، ولوعة الانسان الحديث في مدن تتقدّم الى الحياة بوعد المسرات وارتياب المجهول
كان ياس خضر صوت الفرد المعذب في الأرياف، ولوعة الانسان الحديث في مدن تتقدّم الى الحياة بوعد المسرات وارتياب المجهول. جذوره الدينية والشعبية منحته القدرة على التقاط المشاعر الإنسانية المتنوّعة ببداهة، والتعبير عنها بتلقائية وأصالة بارعتين. وعلى الرغم مِن أنه بدا في حواراته بلا اهتمامات أدبية (أو هكذا أوحى للآخرين)، ولا فذلكة استعراضية، لكن المتأمّل لأغانيه سيلمس ذائقة شعرية رفيعة بلا شك، واختيارا دقيقا ومسؤولا للكلمات، ينبع على الأرجح من التزام شخصي. قد يكون للملحن دور أوّلي في اختيار بعض القصائد، لكن المطرب هو من يوافق على الغناء تبعا لاختياره حينا، ولثقته باختيار الملحن حينا آخر.
ولد ياس خضر علي القزويني في النجف عام 1938، في عائلة مكونة من ثلاث بنات وولدين. وكان والده قد توفّي قبل ولادته بستة أشهر. نشأ في بيئة دينية ذات اهتمامات أدبية، كان أبوه خطيبا وشاعرا دينيا. بعمر السادسة عشرة أتقن أحكام التجويد ومخارج الحروف وعرف بتلاوة القرآن الكريم في المحافل العامة والخاصّة، لكنه ترك المدرسة من أجل الفن. واجه معارضة شديدة من عائلته، وقاطعه بعضهم، لكنه لقي بمحبة الجمهور تعويضه، معبرا عن صلابة ذاتية.
في عام 1958 غنى "الهدل" وهي من تراث غجر الأرياف، وأجادها حتى لقّب بـ"أبو الهدل"، إذ كان يغنيها في الأعراس والمناسبات الخاصة، ليسجلها له مصادفة برنامج إذاعي لمحمد زمام وجاسم الياسري وتنجح نجاحا ساحقا. "كانت تطلب وتذاع يوميا بحدود 10-12مرة في الإذاعة، بلا مبالغة"، يقول خضر في حوار معه.
بداية الشهرة
في نهاية خمسينات القرن الماضي صار الطلب مرتفعا على ياس خضر في حفلات الأعراس والمناسبات، وقد عرف بأنه الصوت المقبل لسلالة الغناء الريفيّ العريق، بدءا بحضيري أبو عزيز وداخل حسن وانتهاء بسعدي الحلي وحسين اسعيدة وغيرهم. لكن محمد جواد أموري، الملحن العراقي الرائد، رأى في صوته إمكانية تعبيريّة تتجاوز حدود المنطقة الريفية البسيطة والشعبية. قابل رؤيا أموري تحفُّزُ خضر لانتقالة حاسمة في مسيرته، فكانت "الهدل" و"أبو زركة" ثم رائعة "مرينا بيكم حمد" التي طافت بياس خضر شهرة من العراق إلى العواصم العربية علامة فارقة يصح أن نقول معها: الغناء العراقيّ قبل "حمد" والغناء العراقيّ بعده.
يستذكر "أبو مازن" كما يحب محبّوه تسميته، قصة هذه الأغنية مبتَدِئا بإعجابه الكبير بقصيدة "للريل وحمد" لمظفر النواب، وأنه أخذ القصيدة للملحن محمد جواد أموري، وطلب منه إعدادا موسيقيا لكلماتها. وقد غنّاها مظفر النواب بصوته الجهوري المتفرد على الإعداد الموسيقي لأموري نفسه. يأخذ خضر نبرة النواب الخاصّة في غناء اللحن ويستعملها في أدائه، مسجّلا الأغنية لأول مرة في استوديو الموسيقار جميل بشير الخاص. ليسافر بشير بعدها إلى اليونان ويطبعها مع "الهدل" وبعض الأغاني الشعبية على أسطوانات، قبل أن يستدعيه مدير إذاعة بغداد، طالبا منه تسجيلها مجدّدا في استوديوهات الإذاعة. حققت الأغنية نجاحا منقطع النظير في العراق وانتقل نجاحها سريعا إلى دول الخليج العربي على نحو خاص. وظلت تغنى من مطربين خليجيين كُثر حتى يومنا هذا. بل إنها صارت جواز قبول لكل مطرب جديد يظهر إلى الساحة محاولا لفت انظار الجمهور بغنائها قبل البدء بأغنياته الخاصّة. اللافت أن ياس خضر برع في تلوين أدائه للأغنية على امتداد عقود. سيلاحظ المصغي المتابع لتسجيلات مختلفة للأغنية أنه يعمد الى التنويع الفارق في العُرَبِ والحليات، أو في سرعة الأداء، حتى يصح القول أن "مرينا بيكم حمد" مرت بمراحل متغيرة في كل مرحلة من عمر مطربها، وأنها تطورت ونضجت معه. بل تكاد أن تكون كل نسخة منها مختلفة في الأداء عن سواها.
الأغنية الحديثة
بعد بدايته الشعبية الريفية، انتقل ياس خضر لأداء الأغنية الحديثة التي بدأت تتبلور منذ نهاية ستينات القرن الماضي، لتهيمن في السبعينات على المشهد الغنائيّ العراقيّ بالكامل. ويذكر في حوار تلفزيوني أن "الـمْگَيَّر" نقطة الانتقال إلى نمط الغناء الجديد، التطريبي، الذي اعتمد التنويع الإيقاعي في الأغنية نفسها، ساعد على ذلك طولُ الأغاني التي قدّمها، على أنَّ أغلَبَها ارتكزَ على إيقاع الوحدة الكبيرة كإيقاعٍ رئيس، بما ينسجم مع رؤيته وميوله وامكانيات صوته.
في سبعينات وثمانينات القرن العشرين وصل ياس خضر إلى قمة مجده الفنيّ، وقدّم مجموعة استثنائية من الروائع التي كلما توقّع النقاد عدم تجاوزها، فاجأهم برائعة أقوى وأكثر نجاحا. فكانت "البنفسج"، و"حن وانه حن"، و"روحي" (كلمات مظفر النواب وألحان طالب القرغولي)، و"چذاب"، و"عزاز" (كلمات زامل سعيد فتاح وألحان طالب القرغولي)، و"دوريتك" (كلمات ناظم السماوي وألحان محمد عبد المحسن)، و"تايبين" (كلمات داوود الغنام وألحان نامق الأديب)، ولا ننسى "المگيّر" (كلمات زامل سعيد فتاح وألحان كمال السيّد).
أصبحت رائعة "مرينا بيكم حمد" علامة فارقة يصحّ أن نقول معها: الغناء العراقيّ قبل "حمد" والغناء العراقيّ بعده
راهن ياس خضر وملحنوه على الأغنية الطويلة (12 إلى 20 دقيقة)، بمقدمة موسيقية كلاسيكية، وانتقالات مقامية متعدّدة، وتنوع أسلوبي يحتاج الى نفس استماع طويل، بقصائد شعراء زاوجت المفردة الريفية بالمدينية لتكون المحصلة أُنموذجا لهوية غنائية عراقية خاصة، نجح هو، وبعض زملاء جيله، في تقديمها للمستمع العربي.
ويمكن القول إن ياس خضر استطاع تقديم اللهجة العراقية، البحتة، المعروفة بصعوبتها، والنجاح بها عربيا، وبالأخصّ في سوريا والأردن والخليج العربي وليبيا ومصر، من دون استخدامه اللهجة "البيضاء" التي لجأ إليها غيره للتخلص من حاجز اللهجة.
التزام دائم
في مراهقتنا، أيام التسعينات لم نكن نسمع ياس خضر، لأنه لم يكن مُذاعا بما يكفي، ففي ذلك العقد الصعب، حين اشتد سعير الحصار الاقتصادي وانهارت العملة، قررت "القيادة الشبابية" دعم جيل من المطربين الشباب، ومنحهم الصدارة في ساعات البث التلفزيونية المهمة، وتوارى عن الأنظار ياس وجيله. صار ظهورهم شرفيا وهامشيا بوصفهم "روادا". لم يشتك ياس خضر ولم يغيّر أسلوبه الفني مثل سعدون جابر الذي استجاب لمتغيرات الوقت آنذاك، ودخل في مناوشات ومناظرات تلفزيونية مع المطربين الشباب. هل كان ذلك التهميش هو السبب الوحيد لعدم سماعنا ياس خضر؟ أفكر أن أغنيته ثقيلة على المستمع الناشئ منذ ذلك الوقت، الملول بطبيعته وغير الناضج بتجربته. يحتاج المستمع إلى قطع شوط من التجربة الإنسانية والخوض في غمار الحياة لتذوق نمط الشعر واللحن وأسلوب الأداء المجتمع، كله، في الأغنية "الياسيّة". وهي أغنية تأمل وانسياب وعمق، تشرب على مهل. لا رقص فيها ولا حركة جسدية ولا ميوعة عاطفية. أغنية "جلوس" وقور وانسجام متبحر. لذا فإننا لم نكن جاهزين لتلقيه مثلما لم نكن نستسيغ محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش أيامها.
تشكّل تجربة ياس خضر انتصارا للفن الخالص، المتكئ على نفسه فحسب، على جودة عناصره الرئيسة، بلا رافعات ولا ألاعيب. والتلقي العربي العريض له برهان على مقدرة الفن - مهما كان مغرقا بمحليته - على تجاوز الحدود والثقافات بقوة الخصوصية والأصالة والموهبة. فالرجل تعامل مع كبار شعراء العامية، ولِنَكْتَفِ بالنوّاب! مَن، مثلا، يغامر بغناء البيت التالي:
"هودر هواهم ولك
حدر السنابل گطا!"
هذا البيت يستغلق فهمه حتى على العراقي، فما بالك بالسوري والأردني والخليجي؟
وخذ البيت الآخر:
"يا طعم. يا ليلة من ليل البنفسج
يا كحل!
يا مامش بمامش
طبع گلبي
من أطباعك ذهب".
ومَن يستطيع التعبير عن الجمال "الخارق" للجملة النغميّة التالية:
"أگله تروح
وگليبي
بعد بيمن أهيدنه؟".
أو من يتجرع حقيقة الحب المستحيلة في:
"أنا أدري يهواك الگلُب وبُعدك يعذب حالي
وأدري اليحب ليله صعب هايم يظل للتالي".
لياقة فنية
احتفظ ياس خضر بصوته ولياقته الفنية والأدائية حتّى آخر حياته، وكان شغوفا، متواصلا مع مسيرته الفنيّة لدرجة أنه توفي وفي جعبته 13أغنية لم يطلقها بعد، كان قد سجلها في مراحل سابقة تحسبا لأي عارض، بالأخص بعد تدهور وضعه الصحي في السنوات الأخيرة.
اتسم خضر على المستوى الشخصي، بالبساطة والحياد، والتعامل الفطريّ والصراحة، ولطالما لفت نظري حبه للحياة واقباله عليها رغم تقدم السن ومتاعب الشيخوخة. أعرب في آخر حوار أجراه عن حبه لكريستيانو رونالدو وعن انتقاله في التشجيع من ريال مدريد إلى النصر بسبب رونالدو أيضا، وتحدث بشغف عن عشقه لسيارات المرسيدس.
كما شدّني ميله الواضح لكتمان آرائه الخاصة في السياسة والدين والمثير للجدل من القضايا. كان يعرف أنه يعيش زمانا عشوائيا لا يحترم الخصوصية ولا حرية الرأي، ولا يقيم وزنا لاختلاف الأجيال والرؤى والثقافات، فظل محترما لنفسه، مهابا في المحافل العامة.
توفي وفي جعبته 13 أغنية لم يطلقها بعد، كان قد سجلها في مراحل سابقة تحسبا لأي عارض، بالأخص بعد تدهور وضعه الصحي في السنوات الأخيرة
تواصل ياس خضر مع الغناء إلى أيامنا كلَّفَهُ ضريبة بلا شك. مَن شهد الزمن الذهبي للغناء العراقي وعاصر القبنجي وناظم الغزالي وسليمة مراد، شهد هبوط الأغنية العراقية وانهيارها منذ دخول البلاد نفق الحروب والدمار. وعلى الرغم من محافظته على نهجه في اختيار الأغنية "المهذّبة" بتعبيره، وعدم تقديمه تنازلات عمّا عُرِف عن فنه من انضباط أسلوبي، إلا أنه كان غريبا في زمن كله غربة.
لا أنسى كيف سألته إحدى المقدِّمات "المشهورات" عن أغنية "مرينا بيكم حمد" مستغربة ومستهجنة:
"يا ريل صيح بقهر
صيحة عشك يا ريل".
كيف يصيح القطار بقهر وعشق وهو في النهاية مصنوع من الحديد؟
ابتسم ياس، ونظر اليها نظرة ذات معنى، وقال:
"ست. هذا شعر".
سيطول انتظار العراقيين قبل أن يظهر لهم مطرب من طراز ياس خضر، فهو بصمة لا تتكرّر من التوحّد بينه وبين فنه الأصيل. وصل "الريل" المحطة الأخيرة، وصاح بحزن مودّعا صوت الأرض، لكن الصدى سيظلّ متردّدا ومدوّيا ما دام في الدنيا لوعة، وليلٌ، وسهر. وما دام فيها عاشق يقول: