عمال غزة في شبكة سماسرة التصاريح

تفاقم المعاناة بين استغلال تجار تصاريح العمل والحصار الإسرائيلي

AFP
AFP

عمال غزة في شبكة سماسرة التصاريح

خلال شهر أغسطس/آب الماضي، أحدثت وزارة العمل التي تديرها حركة حماس في قطاع غزة جدلا واسعا بينها وبين عمال غزة في إسرائيل، أو من يعرفون بـ"عمال إسرائيل". الجدل حول فرض آلية تواصل جديدة عن طريق شركات محلية في غزة، مما يضيف أعباء مالية على عمال عانوا من البطالة والفقر خلال سنوات الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني- الفلسطيني الممتدة منذ عام 2007 وحتى اليوم.

في عام 2015، بدأت السلطات الإسرائيلية تتحدث عن نيّتها زيادة عدد تصاريح التجار التي تمنحها للغزيين، لكنها بقيت نيّة بلا واقعٍ يترجمها حتى بداية العام 2018، عندما رفعت العدد من 500 إلى ثلاثة آلاف تصريح. وفي عام 2019، رفعت عدد التصاريح إلى 5 آلاف تصريح تجاري. بناء على تفاهمات غير معلنة مع الاستخبارات المصرية وقطر والأمم المتحدة الذين توسّطوا بين حركة حماس وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، بهدف التخفيف من حدّة التوترات العسكرية التي كانت سائدة وقتها على طول حدود القطاع الشرقية مع الداخل المحتل. لكن في المقابل، لم تسمح السلطات الإسرائيلية بإصدار تصاريح عمّال.

حتى ذلك الوقت، كانت هيئة الشؤون المدنية التابعة للسلطة الفلسطينية، هي الجهة المخولة باستلام طلبات التصاريح وتقديمها للجانب الإسرائيلي، حتى يصل الرد بالموافقة أو المنع الأمني، لكن في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تسلمت وزارة العمل التابعة لحكومة غزة، ملف تصاريح العمل تحت اسم "احتياجات اقتصادية"، حتى وصل عدد التصاريح مؤخرا إلى 18500 تصريح، فيما وصل عدد المسجلين من الغزيين لـلعمل في الداخل المحتل إلى 140 ألف غزي بحسب ما تقوله الوزارة.

ويقول إيهاب الغصين، وكيل وزارة العمل بغزة، إن قرابة ألف عامل، حصلوا على تصريح من مُشغّل إسرائيلي بدلا من تصريح الاحتياجات الاقتصادية، فيما حصل 1700 عامل آخرين على تصريح المُشغّل عن طريق من سماهم "تجّار وسماسرة التصاريح"، مقابل مبلغ مالي يقارب 800 دولار، وهو ما دفع الوزارة لاتخاذ قرار بترخيص شركات تشغيل في غزة، تعمل كوسيط بين العامل والمُشغّل الإسرائيلي يضمن حصوله على عمل قبل الحصول على التصريح، مقابل حصول الشركة على ما يعادل 160 دولارا شهريا من العامل.

ارتفعت نسبة البطالة في قطاع غزة إلى 47 في المئة، فيما ارتفعت نسبة الفقر والفقر المدقع إلى أكثر من 53 في المئة، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2022

لكن، حتى يتمكن العامل من تقديم أوراقه لشركات التشغيل التي تنوي وزارة العمل والاقتصاد التابعتان لحماس بغزة ترخيصها، اشترطت الوزارة تقديم العامل شهادات مهنية تثبت خبرته وقدرته على العمل، وهو ما استهجنه عمال غزة.

زياد (47 عاما)، يقول بلهجته المحلية: "حسب ما نعرف ليس هناك أي تنسيق مع غزة ولا تبادل ولا تحويل عملات. يطلبون منّا شهادات مهنية. طيب من وين بدنا نجيبها، ليش لازم العامل يضطر يروح لمراكز مهنية في غزة ويدفع فلوس وبعدين الوزارة تطلب منه عضوية وبرضه بدنا ندفع فلوس غير الشركة بدها كمان العامل يدفع فلوس؟".

كان زياد في السابق، قبل العام 2000، واحدا من عمال غزة في إسرائيل، ولديه بعض الخبرة والمعرفة في الأعمال والمُشغلين هناك، واضطر إلى تأمين مبلغ مالي قبل عامين للحصول على سجل تجاري وبالتالي حصوله على تصريح تاجر للعمل في الداخل المحتل، بعدما عانى من بطالة ووضع اقتصادي متردٍ لسنوات.

AFP
عمال فلسطينيون يغادرون قطاع غزة للوصول إلى إسرائيل عبر معبر إيريز بعد إعادة فتحه في 26 أبريل 2022

ويشير زياد إلى أن المتعارف عليه أن العامل يحصل على تصريح "بحث عمل" لمدة شهر أو شهرين، عن طريق هيئة الشؤون المدنية، وخلال تلك الفترة يبحث بنفسه عن عمل، بعدما يقتنع صاحب العمل به ويتفق معه، ويقوم صاحب العمل، وهو المُشغّل، بتقديم أوراقه للحصول على تصريح للعامل الذي يتفق معه دون أي تكاليف مالية.

ويقول زياد: "طول عمرنا بنشتغل بالداخل والشهادات المهنية المطلوبة وهمية، ولا مرة طلبوها، اللي بهمهم يكون العامل صاحب خبرة وقدرة على العمل، مش شهادة اشتريتها عشان أحصل على تصريح".

تصريح العمل وتصريح التجارة 

زياد واحد من 340 ألف عاطل عن العمل في قطاع غزة، تمكّن قلة منهم من توفير مبلغٍ مالي لفتح سجلات تجارية والحصول على أوراق تثبت عملهم في مجال التجارة في غزة، مما يجعلهم مخوّلين لتقديم طلب تصريح الدخول التجاري.

وهذه التصاريح التجارية أتت في الزمن الراهن لتستبدل تصاريح العمّال التي كان الاحتلال يصدرها لعمال غزة قبل 20 عاما. ولكن، بينما كانت تصاريح العمال تجيز لأبناء غزة العمل في الداخل المحتل، فإن تصاريح التجار تسمح لهم بالدخول فقط. وإسرائيل، بذلك، تجعل ظروف عملهم هشة، كونها– نظريا– غير شرعية، وتتيح لأرباب العمل مساحة استغلال أوسع.

في الواقع، لم تستجد انتهاكات حقوق عمّال غزة، فهي شبيهة بحالها منذ عشرين عاما، لكن التباين بين تصريح العمل وتصريح التجارة مأسسها وجعل العمّال عُرضة للملاحقة القانونية لمجرد العمل. ومع العلم أن القطاع محاصر منذ 17 عاما وفرص العمل فيه مخنوقة ومحدودة، يتساءل البعض عن ظروف "تصاريح الأمس" وكيف تغيرت اليوم؟ ولماذا يبادر أبناء غزة إلى طلبها وقد صارت ظروف عملهم محفوفة بالهشاشة؟ وهي هشاشة تسود حتى ولو قدّر رب العمل كفاءة العامل الغزاوي الذي وظفه.

بعد عودة الكوادر والقيادات الفلسطينية من الخارج وتشكيل السلطة الفلسطينية، انخفضت أعداد العمال الغزيين في الداخل المحتلّ مرة أخرى

يوضح سمير أبو مدللة، وهو أكاديمي ومختص في الشأن الاقتصادي بغزة، أن الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني الذي تسبب في ارتفاع معدلات البطالة والفقر والفقر المدقع لنسب غير مسبوقة، أدت إلى تكدس القوى العاملة وخريجي الجامعات دون الحصول على عمل أو وظيفة. ويقول: "لذلك نافذة العمل في إسرائيل كانت مُتنفسا لبعض الناس في العمل، وهذا لا يعني تحسن الوضع الاقتصادي العام، فهو يُحسن أوضاعا اقتصادية لبعض المواطنين فقط".

وارتفعت نسبة البطالة في قطاع غزة إلى 47 في المئة، ومن بين العاطلين عن العمل خريجو جامعات، فيما ارتفعت نسبة الفقر والفقر المدقع إلى أكثر من 53 في المئة، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2022. تلك النسب غير المسبوقة تتطلب رفع الحصار الإسرائيلي وإنهاء الانقسام الفلسطيني، كما يقول أبو مدللة، مشيرا إلى أن ارتفاع أو إضافة تصاريح جديدة، لن يكون حلا لتغيير وتحسين الوضع الاقتصادي في غزة.

بعدما احتل الجيش الإسرائيلي كامل فلسطين بما فيها قطاع غزة والضفة الغربية عام 1967، تبدلت أحوال فلسطينيي القطاع الاقتصادية وازدادت سوءا بعدما سيطر الاحتلال على كافة نواحي الحياة داخل القطاع. ولم تكن غزة في ذلك الحين تتسع لأهلها فقط وإنما لآلاف اللاجئين الذين قصدوها واحتموا ثم أسسوا حياة فيها، بعدما طردتهم مجازر الاحتلال من قراهم ومدنهم خلال نكبة 1948.

تحت هذا الضغط، وفي ظل فقدان أبسط مقومات الحياة، اندلعت مواجهات عسكرية يومية بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال، حتى اتخذ الحاكم العسكري الإسرائيلي قرارا على شكل أمر عسكري غير معلن للناس، يقضي السماح بدخول عمال فلسطينيين إلى أراضي 1948 للعمل في مجالي البناء والزراعة فقط.

تدفق آلاف الشبان للعمل داخل الخط الأخضر، وتزايدت أعدادهم عاما بعد عام. واستمرت هذه الحال حتى عام 1987، عام انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث انخفض بطبيعة الحال عدد العمال الغزيين في الداخل المحتل بشكل تدريجي، من قرابة 44 ألف عامل سنة 1987 إلى أن صار عددهم 38 ألف عامل سنة 1989، ومن ثم عاد للارتفاع مع الحديث عن مفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال. بدأت هذه المفاوضات مع تسعينات القرن الماضي وانتهت بتوقيع اتفاق أوسلو سنة 1993.

بعد عودة الكوادر والقيادات الفلسطينية من الخارج وتشكيل السلطة الفلسطينية، انخفضت أعداد العمال الغزيين في الداخل المحتلّ مرة أخرى، لكن الانخفاض لم يستمر طويلا؛ إذ عادت الأعداد في الارتفاع حتى داخل الخط الأخضر إلى قرابة 120 ألف عامل من قطاع غزة عام 1999.

AFP
عمال فلسطينيون يعبرون الحدود سرا إلى إسرائيل للوصول إلى أماكن عملهم في 17 فبراير 2021، في جوار حاجز ميتار الإسرائيلي، بالقرب من الخليل في الضفة الغربية المحتلة

لكن لم تستمر هذه الحال طويلا؛ ففي العام 2000 اندلعت الانتفاضة الثانية، وتصاعدت المواجهات، وكثرت العمليات العسكرية التي قادتها الحركات الفلسطينية الإسلامية بشكل خاص داخل أراضي 1948، فأقفلت سلطات الاحتلال معابر القطاع، وسحبت تصاريح العمّال ومنعتهم بشكل نهائي من العمل داخل الخط الأخضر. وبين عامي 2002 و2006، انخفضت وتيرة أحداث الانتفاضة، فشهدت الحركة العمالية بين القطاع والداخل نشاطا مستجدا؛ إذ راح بعض العمال يتحصلون على تصاريح تجارية تمكنهم من التنقل والعمل داخل الخط الأخضر بشكل غير قانوني.

ماذا بعد حكم "حماس"

عادت السلطات الإسرائيلية لمنع العمال وحتى التجار من الحصول على تصاريح، بعد فوز حركة حماس بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وفُرض حصار إسرائيلي على قطاع غزة، وشددته إسرائيل عقب سيطرة "حماس" على الحكم بغزة عام 2007، ما زاد من تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني، والعسكري أيضا.

في السنوات التالية، وبالرغم من الوضع العسكري المتوتر، عادت سلطات الاحتلال لإصدار تصاريح التجّار فقط، وسمحت لأعداد محدودة بالتنقل، كان بينهم بعض العمال الذين سعوا للعمل في الداخل بشكلٍ غير قانوني، حتى ارتفعت أعداد تصاريح التجّار بين عامي 2018 و2019 إلى 5 آلاف تصريح، و18500 تصريح احتياجات اقتصادية وتصريح مُشغّل عام 2022، لتقرر وزارة العمل مؤخرا العمل على تفعيل وترخيص شركات التشغيل كبديل عن تجّار وسماسرة التصريح كما سمتهم.

خلال حالة الجدل بين وزارة العمل، والعمال في غزة، قالت السلطات الإسرائيلية، وتعقيبا على إعلان الوزارة، إنها لن تتعامل ولن تسمح بوجود شركات وسيطة بين عمال غزة والمُشغّل الإسرائيلي، كون ذلك يتعارض مع القوانين الإسرائيلية، فيما تواصل وزارتا العمل والاقتصاد العمل بقرارهما، وترخيص 16 شركة تشغيل حتى الآن في غزة دون تفعيل عملها.

font change

مقالات ذات صلة