تأسست العلاقات السياسية والاقتصادية بين لبنان ودول الخليج منذ زمن طويل، وربما قبل إعلان دولة لبنان الكبير في عام 1920. لكن من المؤكد أن الخليجيين بدأوا زيارة لبنان منذ مطلع عشرينات القرن الماضي.
تقاطر منذ ذلك الحين عدد من الطلبة لتلقي العلم في مدارس لبنان، في الشويفات والجامعة الأميركية في بيروت وغيرها من جامعات. كانت تجارة الذهب مزدهرة بين الخليج ولبنان منذ ثلاثينات القرن الماضي، وقد حاول تجار الخليج أن يعملوا بها بعد تعثر تجارة اللؤلؤ الطبيعي في أوائل الثلاثينات إثر تطوير اليابانيين اللؤلؤ الاصطناعي. عمد الخليجيون إلى تصدير الذهب إلى الهند بعد شرائه من بيروت.
في العقود اللاحقة ومنذ الأربعينات اشترى الأثرياء المزارع والبيوت في عاليه وبحمدون المحطة والضيعة، سوق الغرب وظهور العبادية وصوفر ورويسات صوفر، حيث أمضوا إجازاتهم الصيفية في لبنان. يضاف إلى ما سبق ذكره، أن لبنان كان مركزاً مصرفياً عندما كانت الصناعة المصرفية في دول الخليج متواضعة أو بدائية. ساهم عدد من رجال الأعمال الخليجيين في رؤوس أموال المصارف اللبنانية وأودعوا أموالهم في تلك المصارف.
تشير إحصاءات إلى أن عدد اللبنانيين في دول الخليج يصل إلى 400 ألف. هؤلاء يمثلون نسبة محدودة من إجمالي المغتربين اللبنانيين الذين لا توجد بيانات مدققة عن أعدادهم، وتتراوح التقديرات من 4 ملايين الى 14 مليون مغترب. المهم أن المغتربين يمثلون أهم مصدر للدخل في لبنان حاليا
اعتمد رجال الأعمال في الكويت والسعودية والبحرين ثم الإمارات على اللبنانيين لإدارة أعمال شركاتهم ومؤسساتهم التجارية والمصرفية والصناعية والعقارية عندما لم تتوفر لهم عناصر محلية أو وطنية لإدارتها بما يحقق لهم النتائج المالية المرجوة. بدأ تدفق اللبنانيين إلى دول الخليج بشكل كبير منذ بداية الخمسينات. عمل كثير منهم في مجالات مهنية عديدة، منها الطب والهندسة والتعليم والتجارة والتوزيع السلعي والخدمات مثل المطاعم والفنادق وشركات السفر. أبدعوا في الصحافة الخليجية وطوروها. شارك الكثير منهم في تأسيس شركات متخصصة في العديد من القطاعات الاقتصادية مع رجال أعمال خليجيين. لم يتوقف عطاؤهم في مختلف الأنشطة في منطقة الخليج في الدول كافة، بالإضافة إلى قيامهم بدور الوكلاء لأعمال أو ممتلكات خليجية في لبنان.
وجود عدد كبير من اللبنانيين في دول الخليج انعكس في طبيعة الحال بشكل إيجابي على الاقتصاد اللبناني وتمكن هؤلاء اللبنانيون من تحويل أموال إلى ذويهم قدرت بمليارات الدولارات. لا شك أن هذه الأموال تمثل نسبة مهمة من تحويلات المغتربين في الخارج الذين تقدر أعدادهم بالملايين منتشرين في أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية وغرب أوروبا وأفريقيا وغيرها من دول العالم.
تحويلات اللبنانيين من الخليج
تشير إحصاءات إلى أن عدد اللبنانيين في دول الخليج قد يصل إلى 400 ألف. هؤلاء يمثلون نسبة محدودة من العدد الإجمالي للمغتربين اللبنانيين الذين لا توجد بيانات مدققة عن أعدادهم، وتتراوح التقديرات من 4 ملايين إلى 14 مليون مغترب في مختلف الدول ومناطق الانتشار التي سبق الإشارة إليها. لكن من المهم التأكيد أن هؤلاء المغتربين يمثلون أهم مصدر للدخل في لبنان في الوقت الراهن، وقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP تحويلات المغتربين الإجمالية في عام 2022 بنحو 6,8 مليارات دولار تمثل 37,8 في المئة من قيمة الناتج المحلي اللبناني. وتعادل تحويلات اللبنانيين العاملين في دول الخليج 48 في المئة من التحويلات الإجمالية الى لبنان في عام 2022.
تؤكد هذه البيانات أهمية عمل اللبنانيين في دول الخليج للاقتصاد اللبناني. جنى هؤلاء اللبنانيون مداخيلهم في طبيعة الحال في مقابل جهود عملية ومهنية مهمة لاقتصادات تلك الدول الخليجية بما عزز النشاط الاقتصادي فيها. وكما سبق ذكره، فإن الحضور اللبناني والاستفادة من المهنيين منهم بدأ منذ أكثر من سبعة عقود. يساهم اللبنانيون في دول الخليج في دعم الاقتصاد اللبناني، ليس فقط من خلال تحويلاتهم، ولكن أيضا بدعم الاستهلاك السلعي والخدمي عندما يزورون البلاد في عطلهم وإجازاتهم.
لا بد أن يعتمد لبنان على تحسين الأداء الاقتصادي من خلال علاقات متميزة مع دول الخليج التي ستجد الآليات المناسبة لتحسين علاقاتها مع لبنان بعيداً من التجاذبات غير الصحية
هناك دعم وتمويل من حكومات ومؤسسات دول الخليج، ومنها الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية في الدول العربية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والصندوق السعودي وصندوق التنمية في أبو ظبي. قدّم الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، بموجب بياناته الرسمية، 28 قرضاً تنموياً للبنان حتى الآن لتمويل مشاريع قطاعات المواصلات والطاقة والمياه والمجاري والاتصالات والخدمات الاجتماعية قدرت قيمتها الإجمالية بـ 286,5 مليون دينار أو 974,4 مليون دولار. وتؤكد البيانات أن المشاريع التي أنجزت بهذه التمويلات تمثل أهمية للاقتصاد اللبناني.
غني عن البيان أن الصناديق الخليجية الأخرى لم تتوان عن تقديم الدعم على مدى السنوات والعقود الماضية حيث قدم الصندوق السعودي للتنمية حتى نهاية عام 2021 ما يبلغ مليار وعشرون مليون ريال سعودي (272 مليون دولار)، لتمويل مشاريع في قطاعات مختلفة في لبنان. كذلك هناك تمويلات من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي الذي تعد السعودية والكويت والإمارات من أهم المساهمين في رأس ماله ومقره في الكويت.
الانتعاش السياسي المطلوب
يعاني لبنان الآن من أزمات أمنية وسياسية مستعصية أكدت تأثيراتها الكارثية على الاقتصاد الوطني والمستويات المعيشة للبنانيين. ارتفع الدين الخارجي من 64 مليون دولار عام 1970 إلى 66,9 مليار دولار في نهاية عام 2021 بموجب بيانات البنك الدولي، في حين قدر البنك أن الناتج المحلي الإجمالي كان 23,13 مليار دولار، بعدما كان 52 مليار دولار في عام 2019. ولا يزال التدهور مستمراً حيث ذكر تقرير للبنك الدولي صدر في ربيع السنة الجارية أن الإنكماش المتراكم من 2018 إلى 2021 بلغ نسبة 37,2 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، كما أن التراجع في الناتج كان 2,6 في المئة في عام 2022. يعول اللبنانيون الآن على إنتاج الغاز والنفط بعد التوصل إلى اتفاقات مع إسرائيل في شأن الحدود البحرية ومناطق الامتياز. هناك شركات نفطية، ومنها "توتال" الفرنسية، بدأت تحضر للإنتاج من الحقول اللبنانية.
مهما يكن من أمر فإن انتعاش الاقتصاد اللبناني مرهون بتوافقات وطنية حول انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل مجلس وزراء متوازن ويتسم أعضاؤه بالكفاءة، وأن يتم تطوير المنظومة الأمنية وتمكين القوى الأمنية الرسمية والجيش من الاضطلاع بالمسؤولية بعيداً من التحزبات. وأصبح إلغاء دور الميلشيات الطائفية مهماً للاستقرار السياسي والأمني بما يعزز إمكانات الإصلاح الاقتصادي. لا بد أن يعتمد لبنان على تحسين الأداء الاقتصادي من خلال علاقات متميزة مع دول الخليج التي ستجد الآليات المناسبة لتحسين علاقاتها مع لبنان بعيداً من التجاذبات غير الصحية.
يمكن لدول الخليج بعد تطور الأوضاع السياسية إيجابا في لبنان، أن توفر الدعم الاقتصادي من خلال صندوق تنموي مخصص للبنان، تديره الصناديق الإنمائية الخليجية وتحدد أدوات التمويل والمعونات والبرامج ذات الصلة. كما أن تعزيز الاستثمارات المباشرة من القطاع الخاص الخليجي سيمكن من توفير فرص العمل ويمكن العديد من المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية من الارتقاء بأداء القطاعات الحيوية ويحسن معدلات النمو.
غني عن البيان أنها تحديات صعبة إذا أخذنا في الاعتبار الأوضاع اللبنانية الراهنة والصعوبات التي تواجه معالجتها.