في تلك البلاد "المؤجّلة" على الناس أن يتشابهوا كحقل من الذُرة أو كقطيع من الماعز. وعلى بعضهم، إذا ما وجد فيه تميّز أو اختلاف وإن ضئيلا، أن يخفي بباطنيّة "واقعيّة"، وبخبث "استراتيجي" هذا الاختلاف، ويتظاهر بأنّه الخروف الأبيض في القطيع الأبيض، أو الحمار الأحمر في القطيع الأحمر. وفي كلتا الحالين نعمة القناعة عند الخروف، ونعمة الطاعة عند الحمير. وعلى هذا البعض إذا شعر بأنّ عنده ما "يقوله"، فعليه أن يستخدمه في تجميل هذا الوضع "المتساوق"، وأن يبرّره وأن يبرز محاسنه وفضائله على البلد. فكل فكرة ضؤلت أم تنفّخت عليها أن تخدم هذا الواقع.
وفي هذه البلاد المؤجّلة عليك إذا أن تؤجّل أفكارك الخاصة (والأفكار الخاصة تفردك أفراد البعير المعبد على قول طرفة بن العبد)، وكذلك مشاعرك الحقيقيّة. فلعبة الباطن هي لعبة الممثلين المجيدين ولعبة الظاهر هي لعبة المهرّجين. وعليك أن تختار بوعي شديد أن تكون ممثلا موهوبا مجيدا يُحسِن تقمّص أدوار "الصمت" و"البكم" و"الصمم" و"التفهم" والتواطؤ والنسيان والتغاضي وطأطأة الهامة بأسلوب متين متماسك يخفي أي خلل "مؤذ" في الأداء. وعندها عليك أن تردّد ما على الآخرين أن يردّدوه، وأن تسمع فقط ما على الآخرين أن يسمعوه، وأن ترى بأذنك (لِمَ لا!) ما يراه الآخرون وربما ما لا يرونه. فالرؤية ليست مهمّة في زمن التصديق والبصم. المهم ما يجب ألّا تراه. وإن "رأيت" فعليك أن توحي بأنك لم ترَ وتؤجّل رؤيتك ورؤاك إلى زمن آخر، وربّما إلى أمكنة أخرى وكواكب أخرى.
وعليك أن تقول إن عانيت وعاينت الفقر والجوع والأزمات، إنّ البلد يعيش في بحبوحة نادرة، وفي وفرة وتخمة وكفاية تحسده عليها شعوب المدن الصناعية كي لا توصم بسوء تقدير الأمور، وتقويم الأحداث، والخروج على الإجماع، وعندها يمكن أن تصنّف في عداد الواهمين أو في عداد الأعداء، والبلهاء، والرعناء والمجانين -لا سمح الله - أو لا سمح "الآلهة" الآخرون.