يزداد الوضع تأزما بعد نحو شهر على انقلاب النيجر واستمرار السباق بين الخيار الدبلوماسي والتدخل العسكري. وقد شكل هذا الانقلاب ضربة جديدة لفرنسا وتهديدا لمصالح الغرب في منطقة الساحل المتمتعة بموقع جيوسياسي حساس يفصل بين فضائين مختلفين تماما، هما شمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء.
ويلقي الخلاف الأميركي- الفرنسي بظلاله على التدخل المحتمل من قبل "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إيكواس) الذي تدعمه باريس ولا تتحمس له واشنطن؛ إذ ترى الولايات المتحدة أن ذلك سيقوض نفوذ الغرب لصالح روسيا، ويمكن أن يدفع إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة في ظل دعم بوركينا فاسو ومالي لانقلابيي النيجر.
الإحباط الفرنسي ومسلسل الفشل في الساحل
تواجه باريس بعد انقلاب السادس والعشرين من يوليو/تموز الماضي، والإطاحة بالرئيس الشرعي محمد بازوم، وضعا استثنائيا؛ حيث إنها بالفعل أزمة مفصلية بالنسبة للوجود الفرنسي في القارة السمراء، ونكسة دبلوماسية جديدة لدائرة صنع القرار في قصر الإليزيه، إذ بعد باماكو في مالي، وبعد واغادوغو في بوركينا فاسو، تشهد نيامي عاصمة النيجر تطورات متسارعة.
منذ 2021، لم يعد هناك سفير فرنسي في باماكو، وقد تم رفض السفير الفرنسي الذي اقترحته باريس على المجلس العسكري في بوركينا فاسو، لذلك ربما لن يكون هناك بعد الآن سفير لفرنسا في واغادوغو، وأخيرا أُنذر السفير الفرنسي في النيجر لمغادرة البلاد، ورفضت باريس الانصياع له لعدم اعترافها بشرعية المجلس العسكري.
يدل هذا السياق على سوء تقدير فرنسي في عدم توقع حدوث الانقلاب، إما نتيجة مكابرة وثقة زائدة بالنفس، وإما بسبب عدم القيام بجهد استباقي نظرا لتراجع مستوى الخبرة والإحاطة من الناحية السياسية والاجتماعية في معرفة البلدان وآليات تطورها وقواها الكامنة، ولفشل في طريقة إدارة ما سمي "الحرب ضد الإرهاب" في الساحل. والغريب أنه بعد الانكفاء من مالي وبوركينا فاسو والاستناد إلى النيجر مع حضور عسكري فرنسي كبير، كان هناك فشل غير متوقع في الترقب والرصد.
أما في ما يتعلق بمستوى تحديد مسؤولية التقصير والنكسة، فيمكن التأكيد على أن الإليزيه هو الذي يحدد السياسة الأفريقية في الجمهورية الخامسة، وتأتي المشكلة من أعلى الهرم -رئيس الجمهورية- الذي يمنحه الدستور حصرية القرار في السياسة الخارجية والدفاع، لأنهما من الشؤون السيادية، حيث إن عدم الاستماع الجيد وعدم التفاعل مع الدبلوماسيين في وزارة الخارجية وعلى الأرض، وكذلك مع العسكريين وقيادتهم ومع الأجهزة الأمنية، يجعل الإليزيه مسؤولا عن النكسة الحالية وعن الخروج من الساحل.
بالطبع، حاول الرئيس إيمانويل ماكرون أمام مؤتمر السفراء السنوي في 28 أغسطس/آب الماضي، تبرير التراجع بسبب التحريض على فرنسا واستهدافها من قبل قوى استعمارية جديدة قاصدا روسيا بالتحديد. لكن الوقائع تدل على أن المسألة أكثر تعقيدا وأن الفشل لم تتداركه فرنسا التي لم تعمل في الوقت المناسب على تغيير يتلاءم مع أفريقيا الواعدة التي لم تعد فضاء لحصد المكاسب فحسب، بل قارة شابة تطمح لاحتلال موقعها في التوازنات الدولية، خاصة أنها محور تنافسية دولية وإقليمية محمومة على الموارد والنفوذ.