غاب قائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين، عن مسرح الأحداث، بحادث تفجير طائرته فوق موسكو، يوم 23 أغسطس/آب المنصرم. قبل هذا التاريخ بثلاث سنوات وستة أشهر وعشرين يوما، داخل المنطقة الأمنية لمطار بغداد، غاب عن مسرح الأحداث أيضا، وبحادث مماثل، قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني.
لم يتفاجأ العالم بنهاية بريغوجين، ونهاية سليماني كانت متوقّعة أيضا؛ هكذا عادة ينتهي الأشرار والقتلة وزعماء العصابات، بعد أن تصبح أدوراهم عبئا على محرّكيهم، خصوصا أولئك، الذين تُديرهم المشاريع، فيُزاحون فجأة، بحادث متوقّع، ثمّة إصبع سري في مكان ما، يضغط على زر انتهاء مهمّاتهم، فتتشابه نهاياتهم.
بداياتهم تتشابه أيضا، هناك صفات نفسية وبيولوجية مشتركة، تجمع بين المجرمين، على ما يقول الطبيب الإيطالي سيزار لومبروزو صاحب نظرية "الرجل المجرم"؛ فالمجرم يُعرف من ملامحه، من أنفه الضخم، وفكّه العريض، وشحمة أذنه السمينة، ووجنتيه البارزتين، وحاجبيه الكثيفين، ومن خلال نظرته الخبيثة، وطباعه الحادّة، وقدرته الفائقة على تحمّل الألم، والتحكّم في مشاعره، إضافة إلى عيوب وتشوّهات في تكوينه الجسماني.
الصفات السالفة تنطبق على كل المجرمين، أما على المستوى الخَلْقي، فلا شك أن الرقم كبير، في لعبة الفوارق بين صورهم. رغم ذلك، يمكن أن نجد في وجه كل واحد منهم على حدة عددا من الصفات الواردة.
وإذا ما تتبعنا خطى بريغوجين وسليماني، وظروف صعودهما ومسارهما الإجرامي، من أول شركة أو عصابة أنشآها، حتى ساعة وصولهما إلى قيادة جيوش المرتزقة، فسنتمكّن من وضع تعريف لهذين الرجلين المجرمين، ورسم ملامحهما النفسية والبيولوجية.
يكاد لا يُذكر اسم سليماني إلا مقترنا بفيلق القدس، كما اقتران اسم بريغوجين بمجموعة فاغنر، برغم أنهما خاضا معتركات كثيرة، قليلها معروف ومتداول، وكثيرها دُفن معهما.
وبرغم كونهما أول المؤسّسين لنشر نفوذ بلديْهما في العالم، لكن لا أحد يعرف كيف ومتى قفزا من المقعد الخلفي، إلى قُمرة القيادة.
هناك صفات نفسية وبيولوجية مشتركة، تجمع بين المجرمين، على ما يقول الطبيب الإيطالي سيزار لومبروزو صاحب نظرية "الرجل المجرم"
في مطلع حياته العسكرية، أسّس سليماني مجموعة قتالية في كرمان (مسقط رأسه) أشرف على تدريب عديدها بنفسه، ودخل بها الحرب الإيرانية– العراقية، وسرعان ما اكتسبت ثقة القيادة، فتحوّلت بعد انتهاء الحرب، إلى كتيبة حرس حدود من جهة أفغانستان، للسيطرة على طرق تجارة الأفيون، ثم توغّلت نحو بنجشیر، لمساندة أحمد شاه مسعود في مواجهة السوفيات مرّة، وفي مواجهة طالبان مرّة أخرى، ثم طارت نحو البلقان، لتشارك في حرب البوسنة.
بريغوجين بدوره، أسّس عددا من الشركات الأمنية، تحت إشراف الاستخبارات الروسية، أدّت دورا متقدّما في خدمة الدعاية الروسية الرسمية، كان من مهامها التدخّل في شؤون الدول، ونشر الأكاذيب حول الأعداء، والتضليل الإعلامي عبر الإنترنت.
وقد أُصيب سليماني في أكثر من مواجهة، كان آخرها في معارك ريف حلب، فقلّده المرشد علي خامنئي وسام "ذو الفقار"، ولقّبه بـ"الشهيد الحي"، وكان أغنى رجل في إيران؛ إذ سيطر على ثروات بلاده، بدءا من الأرز والفستق والسجّاد والكافيار، وصولا إلى النفط والغاز واليورانيوم.
بريغوجين عُرف بلقب "طبّاخ بوتين"، دلالة على أعلى درجات الثقة، التي حصل عليها من زعيمه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحازت شركته "كونكورد" على أمانة إطعام الكرملين والجيش الروسي وأطفال المدارس وأثرياء موسكو.
أتقن الرجلان مهنة الإرهاب في بلديْهما وخارجهما؛ فتك فيلق القدس، تحت قيادة سليماني، بالفرس والعرب واللرّ والكرد والأذريين في إيران، وأرعبت مجموعة فاغنر، بقيادة بريغوجين، جمهوريات روسيا الاتحادية شعوبا وقبائل ومعارضين وانفصاليين.
ونفّذ مرتزقتهما هجمات إرهابية في دول الشرق الأوسط والعالم، وارتكبا جرائم حرب، وانتهاكات لحقوق الإنسان.
استخدم بريغوجين مرتزقته في العمليات العسكرية خارج الحدود، للحد من الخسائر البشرية للقوات العسكرية الروسية، وكذلك حاربت ألوية "زينبيون"، و"فاطميون"، و"أبو الفضل"، و"النجباء"، و"أنصار الله"، و"حزب الله" اللبناني، نيابة عن فيلق القدس.
حوّل سليماني العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزّة، إلى ثكنات عسكرية إيرانية؛ في لبنان وحده يوجد أكثر من 70 ألف صاروخ، وكان يشرف بنفسه، على عمليات نقل المقاتلين، إلى معسكرات التدريب وجبهات القتال، برّا وبحرا وجوّا، أما عملية النقل الأكثر شهرة، التي نفذها، فهي إحضار الرئيس السوري بشار الأسد إلى إيران.
أُصيب سليماني في أكثر من مواجهة، كان آخرها في معارك ريف حلب، فقلّده المرشد علي خامنئي وسام "ذو الفقار"، ولقّبه بـ"الشهيد الحي"، وكان أغنى رجل في إيران؛ إذ سيطر على ثروات بلاده، بدءا من الأرز والفستق والسجّاد والكافيار، وصولا إلى النفط والغاز واليورانيوم
وبالإضافة إلى نشاطه العسكري، تورّط سليماني في أنشطة اقتصادية ومالية غير قانونية، وعقود تجارية، وغسيل أموال، وتهريب أسلحة عبر العراق، وإلى اليمن، وبيع النفط الإيراني في سوريا، مع شركائه في "حزب الله" بفرعيه اللبناني العراقي.
قدّم سليماني خدمات جبّارة للمحافظة على النظام السوري، فشنّ مستعينا بمرتزقته حربا لم تنتهِ بعد على الشعب السوري. قتل من قتل، وهجّر من هجّر، ودمّر مدنا ومناطق بأكلمها، وحوّلها إلى خرابات.
كان لدى بريغوجين أنشطة اقتصادية غير قانونية، خارج حدود بلاده، تؤدّيها "شركة فاغنر الأمنية الخاصة"، نهبت المجموعة الموارد الطبيعية في ليبيا وسوريا وأوكرانيا ومالي وأفريقيا الوسطى، وسيطرت على معابر تهريب الألماس والجواهر الثمينة في أفريقيا، وأشاعت الذعر حيث حلّت، وانتهكت القانون الدولي، بتعذيب المعتقلين والمدنيين والإعدامات الميدانية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية في الدول التي غزتها، وقادت انقلابات سياسية وعسكرية في بعض البلدان الأفريقية.
قاد بريغوجين مرتزقته للقتال في سوريا وأوكرانيا، فارتكبوا كثيرا من الفظائع والإبادات الجماعية وجرائم الحرب، وعدا الشراهة للتدمير، التي كانوا يبدأون بها معاركهم، لم يخرجوا من مدينة إلا بعد أن يسوّوها بالتراب، وتشهد بقايا مدينتي حلب وباخموت على وحشيتهم وطبيعتهم الإجرامية.
بريغوجين قتله تهوّره، أما سليماني فقد قتله غروره، الأول عجّل تمرّده بنهايته، والآخر طموحه. وبتصفيتهما، إن كان بنيران صديقة أو عدوّة، لن يعود بوسع "الفيلق" و"المجموعة"، المحافظة على بصمات قائديْهما الدموية، لكن العالم، بلا شك سيصبح أقلّ دموية.