في مقال ضمن كتاب "أسطوريات" (1957) تحت عنوان "دماغ آينشتاين"، كتب رولان بارت: "دماغ آينشتاين موضوع أسطوري، المفارقة أن ذكاءه الفائق، يشكّل أكثر صور الآلات إتقانا، وهكذا يُفصَل الرجلُ الأقوى عن علم النفس، كي يُحشر في عالم من الروبوتات".
ما يكتب اليوم عن الذكاء الاصطناعي يقلب هذه الصورة رأسا على عقب، حيث يُفصَل ذلك الذكاء عن عالم الروبوتات، ليحشر في علم نفس جديد.
في حالة آينشتاين كان الفكر يعرض علينا نفسه "على أنّه مادة طاقية، ومنتوج قابل لأن يقاس بجهاز مركّب يحوّل المادة الدماغية إلى قوة". أما بحسب ما يقال لنا اليوم عن الذكاء الاصطناعي، فإن المادة الطاقية هي التي غدت فكرا، كما صارت القوّة مادة "دماغية".
الصورة التي أعطيت عن صاحب نظرية النسبية هي كونه "لا ينطوي على أيّ قوة لا يُعرف مصدرها. فلا ألغاز هنا سوى اللغز الآلي". صحيح أنه فرد راقٍ ومعجِز، لكنه حقيقي، بل إنه كائن فيزيولوجي. "آينشتاين مادة، وقوته لا تؤدّي تلقائيا إلى الفكر. وقد أتاح هو نفسه الفرصة، إلى حدّ ما، لأن يكون محط تأويل أسطوري، عندما سلّم دماغه لتنازع مَشْفيين، وكأنّ الأمر يتعلق بقطعة غير عادية من الآلات التي سيتسنّى أخيرا تفكيكها. وهو يظهر في صورة فوتوغرافية ممدّدا، ورأسه موصول بأسلاك كهربائية لتسجيل موجات دماغه... في تلك الأثناء التي طلبوا منه فيها أن يفكّر في النسبية، فكأنهم يريدون إقناعنا بأن اهتزازات الدماغ ستكون أكثر شدّة كلما ازداد موضوع التفكير صعوبة، وكلما ازدادت قضاياه تعقيدا.
مبدئيا، أسطورية آينشتاين "هي في الواقع عبقرية قلّما تكون سحرية، إلى درجة أن المرء يتحدّث عن فكره وكأنّه يتحدّث عن عمل وظيفي شبيه بصناعة النقانق صناعة آلية". لقد كان ينتج الفكر من غير انقطاع، مثلما تنتج المطحنة الطحين. لكنّ المفارقة هنا، هي أنه كلما اتخذت عبقرية الإنسان صورة مادية، ازداد نتاج اختراعه قربا من الطابع السحري، وازداد تجسيدا للصورة القديمة الباطنية لعلم سرّي هرمسي يتخفّى وراء أحرف معدودة. بموجب هذا العلم السرّي ينطوي الكون على سرّ وحيد، سرّ الأسرار. وهذا السرّ يتجلّى في كلمة واحدة. الكون صندوق حديدي تبحث الإنسانية عن رقمه السري. و"آينشتاين كاد يعثر عليه، وفي ذلك تكمن أسطوريته". الكلمة المفتاح التي يشير إليها بارت هنا هي المعادلة "البسيطة" التي تربط بين الطاقة، وبين المادة والسرعة الضوئية. مع دماغ العالم الفزيائي الكبير، ننتقل من الآلية إلى الأسطورة. هكذا تحترم الأسطورة طبيعةَ المهام: البحث يجنّد آلات ميكانيكية، أما الاكتشاف فله، على العكس من ذلك، طابعٌ سحري. إنّه بسيط بساطة العناصر الأولية والاستُقُصّات التي تحدّث عنها الإغريق.
كلما اتخذت عبقرية الإنسان صورة مادية، ازداد نتاج اختراعه قربا من الطابع السحري، وازداد تجسيدا للصورة القديمة الباطنية لعلم سرّي هرمسي يتخفّى وراء أحرف معدودة
هكذا نحن نعثر عند صاحب نظرية النسبية، على الموضوعات الغنوصية وخصائص تلك المعرفة جميعها: من القول بوحدة الطبيعة، وإمكان نموذجي لاختزال أساسي للعالم وتبسيطه، وقدرة الكلمة على فتح المنغلق، والصراع القديم بين السرّ والكلام، وزعم الغنوصية بأن المعرفة الكلية لا يمكن أن تنكشف إلا دفعة واحدة. مجمل القول، إنّنا هنا أمام الساحر والآلة وقد اجتمعا في شخص واحد، شخص أسطوري. فهل يمكننا قول الشيء نفسه عن الذكاء الاصطناعي؟ وهل نحن أمام السحر والأسطورة نفسهما؟
من جملة الصور التي يحيل عليها بارت في مقاله صورتان: صورة فوتوغرافية لآينشتاين أمام سبورة ممتلئة عن آخرها و"مكسوة بعلامات رياضية ذات تعقيد واضح"، لكن صاحب"أسطوريات" يذكر رسما آخر (يوظف بارت هنا الدلالة الصوتية لكلمة "رسم" باللغة الفرنسية Dessin التي تحيل أيضا على المشروع والمرمى Dessein) للعالم الفيزيائي نفسه أمام سبورة سوداء، وعلى أصابعه بقايا طباشير، لكن السبّورة لا تشمل، هذه المرة، سوى المعادلة التي سبق أن أشرنا إليها. فقد "كتب على سبورة فارغة، وكأن الأمر لم يسبقه إعداد، الصيغةَ السحرية للعالم". نقطة واحدة بيضاء على سواد تامّ، إنها حصيلته المعرفية وقد اختزلت في كلمة واحدة. هذه القدرة على الاختزال، وهذا الاستخلاص الذي يقلّص المعلومات إلى حدّها الأدنى، يتنافى تمام التنافي مع الفائض من المعلومات الذي ما يفتأ الذكاء الاصطناعي يعرضه علينا من غير أن يستطيع رده إلى مبدأ بعينه.
مقابل دماغ قادر على التبسيط والاختزال والتحليل، نحن أمام قدرة هائلة على تجميع المعلومات وتخزينها بهدف تركيبها. لكن المفارقة الكبرى هي أننا إن تمكنّا مع آينشتاين من الحديث عن الجمع بين الآلية والسحر، بين العالِم والأسطورة، فإنّنا نعجز أن نجمع بينهما بصدد الذكاء الاصطناعي، على الرغم مما قد يبدو من مهارة وإعجاز في الأمر للوهلة الأولى. فعلى الرغم من أننا هنا أمام آلية ذكية، إلاّ أنه ذكاء ينقصه السحر الذي من شأنه أن يخوّل له، على غرار "دماغ آينشتاين"، أن يكون فصلا من فصول طبعة لاحقة لكتاب شبيه بكتاب "أسطوريات".