عزّزت السياسات الأميركية مقام الانتحاري في المجتمع الأفغاني وساهمت في قلب صورته، فبدل أن يكون إرهابيا لا يبالي بقتل الناس في سبيل تنظيمه المتطرف، بات من ينتقم لشرف الأفغانيين من الانتهاكات اليومية والوحشية التي يرتكبها الأميركيون.
وفي لقاءات كثيرة مع قيادات "طالبان"، نرى ذلك التماثل المرعب بين جهتين يفترض أنهما يتناقضان في كل شيء، إذ أن التبريرات التي ينجح سميث بانتزاعها من قادة طالبان، والتي تبرّرارتفاع ضحايا المدنيين في العمليات التي تستهدف الأميركيين في ظروف الحرب ومتطلباتها، تتلاقى مع تبريرات الأميركيين وتتناسب معها، وكأن كل التصريحات صادرة عن جهة واحدة.
شكّل احتقار حياة المدنيين قاسما مشتركا بين طرفي النزاع، وكذلك فإن محاولات تصميم خطط كسب العقول والقلوب التي أسمتها إدارة الرئيس باراك أوباما "مكافحة التمرّد"، أثبتت جهلا بطبيعة المجتمع الأفغاني وخصوصياته والعجز عن صناعة استراتيجية قادرة على معالجة المشكلات العميقة التي يعاني منها.
كانت إدارة أوباما تعوّل على فعالية هذه الإستراتيجية بشكل جعلها نوعا من الإيمان العقائدي وليس استراتيجية سياسية واجتماعية وميدانية. كانت تريد أن تصنع تأثيرا على شعب عانى من تاريخ طويل وممتد من الصراعات والنزاعات ويمتلك إرثا ثقافيا متنوعا ومعقدا بـ 21000 جندي ينفذون سياسة الاختلاط بالناس ومحاورتهم من دون رغبة أو قدرة على فهمهم، والتعامل مع ما يسم حياتهم وأوضاعهم من تعقيدات. كان الخلل واضحا في تلك الرؤيا لدرجة دفعت بجو بايدن الرئيس الحالي الذي كان نائبا للرئيس حينها إلى انتقادها بشكل حادّ ومباشر.
عارض الرئيس دونالد ترامب تلك الإستراتيجية ولكنه لم يلغها تماما، بل عمل على تحقيق الانسحاب التدريجي للأميركيين من أفغانستان والذي أنجز تماما في عهد الرئيس جو بايدن خالقا مشهدا كارثيا لاحتلال طالبان لكامل المشهد الأفغاني وسيطرتهم التامّة على كل مفاصل الحياة فيه، وكأن كل ذلك الصراع لم يكن سوى تمهيد لهذه اللحظة.
لم ينس الوثائقي الشأن الاجتماعي من خلال موقف طالبان من النساء، فقدّم إشارات مكثفة وموجزة توضح آليات تمثل التنظيم المتطرّف للمرأة، فخلال مقابلة مع قيادي طالباني وسؤاله عن الشأن النسائي وحقوق المرأة في التعليم وغيرها كانت الإجابة المختصرة: "تلك المواضيع لا تهمّنا" تكثيفا بليغا للموقف من المرأة.
وقد تعمقت تلك النظرة لاحقا مع تقدّم مراحل سيطرة طالبان وتبلورت بالكامل مع تحوّلها إلى منظومة السلطة الأساسية في البلاد حيث صنعت مجتمعا لا ملامح فيه للمرأة ولا حق لها في التعليم أو الخروج الى المجال العام. كل ذلك جعل من النضالات التي تمارسها النساء الأفغانيات فعلا بطوليا خالصا يوجّه مارتن سميث من خلاله رسالة إلى العالم معلنا عن الانحياز لقضايا المرأة والضحايا من خلال الحقائق الصافية البحتة المجرّدة التي يضعها في متناول الجميع مكثفة وحاسمة.
عبر اختيار هذا الوثائقي للاحتفال بإطلاق القناة نكتشف الإطار الذي يتوقع أن يحكم تجربتها والقائم على محاربة الإرهاب والتطرف عبر تفكيك الوقائع المؤسّسة له، وتفنيد الخرافات والتراكم الخبري المسطّح بالغوص التحليلي الفاحص في ما يختفي وراءه من سياقات ووقائع، والدفاع المستميت عن مفهوم الحقيقة بوصفه أصلا لمعنى الإعلام والصحافة وصانع مجدها، والمؤسس لسلطتها وشرعيتها ودورها.