عقب كلّ سفرٍ خارج المغرب يتكرّر سؤال الجمركيِّ في غرابة: المهنة، كاتب! فأتفضّل بالرّدّ مؤكدا البيانات الرسمية في قائمة معلومات هويتي المثبتة في الحاسوب أمامه: نعم. وماذا تكتبُ (سي اسماعيل): القصة القصيرة والرواية. وهل حقّا تعيش من عائدات بيع ما تكتبه؟ يردف الجمركيّ بفضول زائد. قطعا، لا، أردّ بالنّفي. يستأنف الاستفهام: بالتأكيد هناك مصادر أخرى؟ وأردّ موافقا: صحيح، ومن الكتابة نفسها لكن في حقول أخرى، الإعلام، التّحرير، السيناريو( باسم مستعار)...إلخ>
يبدي إعجابا بالمهنة التي نادرا ما يصادفها في بطاقات الهوية والجوازات، ولا يني يسأل عن عناوين صادرة مُسجّلا إيّاها، إمّا على سبيل المجاملة أو بجدّية وهذا مستبعدٌ، من يدري؟
تشريفٌ وتقدير هما ألقُ الكاتب كمهنة في بطاقة الهوية، في جواز السّفر، لكن ما لا يعلمه الجمركيّ أنّ الحصول عليه لم يكن بالسهولة التي يعتقد، فما أن تخطّيتُ الجامعة كمجازٍ في اللغة العربيّة، وكانت المهنة السابقة: طالب، اصطدمتُ بقطاع طرق السلك الثالث (ما يسمّى بالماستر الآن) من بعض أساتذة الجامعة ودكاترتها المتنكرين في هذه الوظائف المدعية، فيما هم أفدح من جنرالات دمويّة... ومباشرة، مرغما إلى تجربة الإعلام نزحتُ تخفّفا من العطالة الفادحة، مع التفرّغ كلّيّا للكتابة. للحصول على مهنة إعلامي تلزمك شهادة عليا متخصّصة، فهؤلاء لا يعترفون بالصحافة الثقافية التي قد يمارسها كاتبٌ، وأما مهنة كاتب فالحصول عليها مستحيلٌ، إذ هي ليست وظيفة تدرّ دخلا وفق سلم الوظائف الأخرى المعهودة. لا بدّ من أن تنخرط في معارك متاهية، النفق الإداري تلو الآخر، فيما يشبه دوامة كافكاوية قد تنتهي بالخيبة المطبقة واللاشيء الصفيق، خاصة إن كنت غير منتمٍ لاتحادِ كُتّابٍ أو مؤسسة ثقافية تابعة لوزارةٍ (وهذا ما أحمدُ سمائي عليه).
حصلتُ على مهنة الكاتب بعد معركة فادحة جديرة براوية أو فيلم، وهذا ما خوّلني إياه إيماني اللاسع بما أعملهُ واقعا وحُلما ولا أعرف احترافَ غيره
لم أيأس من السّعي وراء الظفر بمهنة الكاتب في أوراقي الرسمية، العام تلو العام، مع تغيّر الباشاوات المتغطرسين والقُوّادِ الأمّيّين في البلدة، ولم ألجأ لأي وساطة لا من شخص أو مؤسسة، فَدَيْدَنِي كان ما أصدرتُه من كتب قصصية وروائية، وما راكمتُه من مقالات وأعمدة صحافية... وهكذا مسعى يحتاج رصيدا عتيدا من المقاومة، ولو احتاج الأمر في الأخير إلى اعتصامٍ و... تلكم هي فترة بداية الألفيّة الثالثة في المغرب، وأمّا ما قبلها في التسعينات السوداوية فأفدح، إذ الحصول على جواز سفر كان يحتاج إلى السيناريو ذاته وأكثر، كما لو تسعى وراء تأشيرة جزيرة الواق واق.
حصلتُ على مهنة الكاتب بعد معركة فادحة جديرة براوية أو فيلم، وهذا ما خوّلني إياه إيماني اللاسع بما أعملهُ واقعا وحُلما ولا أعرف احترافَ غيره... وها طرقٌ مغلقة، مظلمة، انفتحتْ لي فعلا ومنها السفر خارج المغرب أخيرا.
مزهوّا بتوصيف الكاتب كمهنة في بطاقة هويتي وكانت البطاقات لحظتئذ غير بيوميترية، أُشْهِرها هي والجواز كشارةِ نصرٍ في وجوه السّلطة أنى أُرغمتُ على طلب وثيقة إداريّة مستعصية، أو الحصول على تأشيرة سفرٍ... والفضل يرجع للكتابة ذاتها أوّلا وأخيرا.
ما أزال أحتفظ بالهوية ذاتها في وثائقي حتّى الآن، ولم ولن أغيّرها مهما يكن، فـ(كاتبٌ) هو الشيء الوحيد الذي سعيت أن أكونه بلا هوادة في مغامرة حياتي كلّها، وأن يغدو التوصيف مهنة في أوراقي الرسمية فشيء نادرٌ أيضا لا يمكن التخلي عن شرفه كيفما تبدّلتْ مصادر العيش وتراقص بندول الوظائف.
الكتابة أكبر من أن تكون مهنة، فما يجمع كاتبا حقيقيّا مع إبداعه محض علاقة وجودية وجمالية خالصتين، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون مهنة أيضا
كثرة من الكتاب العرب حملوا مهنة الكاتب في وثائقهم الرسميّة، كالماغوط الذي توسّم جوازه بمهنة: شاعر ويحيا الطاهر عبد الله الذي مهرتْ صفةُ "كاتب قصة قصيرة" بطاقة هويته وغيرهما العشراتُ... والمسألة رمزية أكثر منها ماديّة كما قد يخالُ الخائلُ من الخاصّة أو العوام، فما من وجود لتقاليد وكلاء أعمال الكاتب عربيّا، سواء كانت وظيفتهم التفاوض على عقود النشر وتدبير عروض الترجمات أو إعداد قائمة المحاضرات والمهرجانات والأسفار مقابل عائداتٍ تضمن للمؤلّف كامل حقوقه، زد على ذلك غياب المنح اللائقة فعلا بالتفرغ للكتابة، كما أنّ دور النشر العربية هاوية، وأغلبها تجاريٌّ يراكم الأرباح على كاهل الكاتب دون أن يمنحه مستحقاته من المبيعات كيفما كانت نسبتها ضئيلة... لا مِهنيةَ للكِتاب حتى لا أقول صناعة تضع الكاتب في مركزيّة حركيّتها وكيفما كانت صناعةُ الكتابِ وما يدور في فلكها مستحبّة أو مذمومة، فهي غائبةٌ في كلّ الأحوال.
والواقع أنّ قلّة قليلة من تعيش من مصادر الكتابة فعلا، وأعني الكتاب الأحقاق بالذّات والصفة، وليس المدّعون المتاجرون بالأدب والفكر فيما يشبه مقاولات ثقافية ذات نفع خاص، وهم مفضوحون رغما عن أنف أقنعتهم، وأمّا النماذج الشّائعة الأخرى المتقلّدة لمهنة الكاتب في الأوراق الرسميّة، وتعيش وضعا اجتماعيّا ثابتا يصل حدّ الترف، فمؤسساتٌ حزبية ما يؤثث منزلتهم ريشا، أو هم كتاب مأجورون وفق إملاءات مبتذلة، أو بذل خدمات قذرة لصالح هذه السلطة أو تلك.
نعم الكتابة أكبر من أن تكون مهنة، فما يجمع كاتبا حقيقيّا مع إبداعه محض علاقة وجودية وجمالية خالصتين، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون مهنة أيضا بالنظر إليها كعمل شاقٍّ جدّا لا يستنزف ذهن وجسد وخيال الكاتب وحسب، بل حياته عن آخرها.