تتواصل الاحتجاجات الحاشدة والإضرابات في محافظة السويداء منذ 16 أغسطس/آب المنصرم، يغلق المتظاهرون الطرق الرئيسة التي تربط المدن والقرى في الريف، مما يؤدي إلى تعطيل الوصول إلى العاصمة دمشق. كذلك، تشهد مدن ومناطق أخرى تقع تحت سيطرة النظام السوري، بما في ذلك محافظتا درعا وريف دمشق، أشكالاً من الاحتجاجات، وإن كانت في نطاق أضيق بكثير ولفترة محدودة. وينتشر التعبير عن مشاعر الإحباط والغضب الشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في صفوف مجموعات كبيرة من المناهضين لسياسات الحكومة.
وفي حين أن هذه الاحتجاجات والانتقادات تدين النظام السوري بعمق سياسيا واقتصاديا، انطلقت التظاهرات الأخيرة بعيد قرارات اقتصادية اتخذتها الحكومة السورية أدت إلى مزيد من التدهور في الظروف المعيشية للطبقات الشعبية في البلاد. ففي حين رُفِعت الرواتب بنسبة 100 في المئة، أعلنت الحكومة السورية في الوقت نفسه رفع الدعم كاملا عن البنزين وجزئيا عن الديزل. وارتفع سعر ليتر البنزين حاليا إلى 8,000 ليرة سورية، مقارنة بـ3,000 ليرة سورية سابقاً، وسعر الديزل إلى 2,000 ليرة سورية، مقارنة بـ 700 ليرة سورية سابقاً. لا شك أن هذا الارتفاع في أسعار المشتقات النفطية يؤثر في جوانب الاقتصاد كلها، ويفضي إلى تآكل أي مكاسب إيجابية من زيادة الرواتب.
الليرة السورية، مرآة الدمار الاقتصادي
أثبتت الحكومة السورية فشلها في معالجة التدهور الاقتصادي في البلاد. وتواصل العملة الوطنية فقدان قيمتها منذ بداية العام، حيث هوت قيمة الليرة السورية إلى مستويات قياسية جديدة بحلول منتصف يوليو/تموز 2023، ليتجاوز سعرها 15,000 ليرة سورية للدولار الواحد، من 9,000 ليرة سورية أواخر مايو/أيار، قبل أن يتراجع الدولار قليلاً في نهاية أغسطس/آب إلى 13,800 ليرة سورية.
وقد أثار هذا الوضع حالاً من الذعر في الأسواق المحلية مع ارتفاع أسعار المنتجات الأساسية كلها، من الأغذية إلى الديزل، واعتماد الجهات الاقتصادية الفاعلة، لا سيما التجار، أسعار السوق السوداء لليرة السورية للمحافظة على أرباحهم.
ويعكس الانخفاض المستمر للعملة الوطنية، المشاكل الاقتصادية الهيكلية في سوريا المتجذرة من جراء الحرب والسياسات الحكومية، والتي تفاقمت بسبب العقوبات والصدمات الخارجية مثل الأزمة المالية اللبنانية المستمرة منذ عام 2019، والغزو الروسي لأوكرانيا.
هوت قيمة الليرة السورية إلى مستويات قياسية جديدة بحلول منتصف يوليو/تموز 2023، ليتجاوز سعرها 15,000 ليرة سورية للدولار الواحد، من 9,000 ليرة سورية أواخر مايو/أيار، قبل أن يتراجع الدولار قليلاً في نهاية أغسطس/آب إلى 13,800 ليرة سورية
وتعمل هذه السياسات على مفاقمة تدهور الظروف المعيشية لفئات كبيرة من السكان، وتوسيع نطاق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والمناطقية، وتعيد إحياء المعضلات التي كانت قائمة قبل اندلاع الحرب عام 2011، عدا عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تخلفها على السكان.
كذلك، يؤثر ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في مستويات الإنتاج كلها، بما في ذلك أجور العمالة، ورسوم النقل، وتكاليف المولدات والحياة اليومية للسكان في شكل عام. وللتعويض عن ذلك، منحت الحكومة مكافآت أو زيادات في رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين وأجورهم، غير أن هذه القرارات تعوض جزئياً فقط عن الانخفاض الكبير في القوة الشرائية للسكان، في حين أن الأفراد العاملين لحسابهم الخاص لا يستفيدون من أي تدابير مماثلة.
وبلغت تكلفة سلة الإنفاق الأدنى، وهي مقياس لحساب تكلفة المعيشة استناداً إلى مقاييس برنامج الغذاء العالمي، لأسرة مكونة من خمسة أفراد، نحو مليوناً و441 ألف ليرة سورية في يوليو/تموز 2023، أي بزيادة 90 في المئة عن العام السابق. بالمقارنة، فإن الحد الأدنى للأجور، الذي تضاعف في أغسطس/آب بموجب القرار الحكومي، لا يتجاوز 186 ألف ليرة سورية، وهذا يمثل 13 في المئة فقط من تكلفة سلة الإنفاق الأدنى في يوليو/تموز 2023، وكان متوسط أجر الموظف الحكومي يساوي عام 2011 ما بين 200 إلى 320 دولاراً، حين كان سعر صرف الدولار 47 ليرة سورية.
وعانى الاقتصاد السوري بشكل كبير خلال العقد الماضي، كما تضررت كل العوامل التي سمحت بالاستقرار النسبي لليرة السورية. ومنذ عام 2011، انخفضت الإيرادات المحلية على نحو ملحوظ، من جراء تراجع قطاعَي النفط والسياحة بالدرجة الأولى، اللذين شكلا مصدرين رئيسين للعملة الأجنبية قبل اندلاع الانتفاضة، نظرا لما لحق بهما من دمار هائل و/أو خروجهما عن سيطرة الحكومة.
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) March 16, 2023
ويتمثل السبب الثاني لانخفاض الإيرادات في توقف الاستثمار الأجنبي المباشر كليا تقريباً بعد عام 2011، وكان قد بلغ أكثر من ثمانية مليارات دولار بين عامي 2005 و2011، مما أمعن في انخفاض قيمة العملة السورية. وأخيراً، أدى الدمار الهائل الذي لحق بقطاعي التصنيع والزراعة إلى انهيار القدرة الإنتاجية المحلية وانخفاض حجم الصادرات، لتفقد البلاد بذلك مصدرا مهما للدخل وتلجأ إلى زيادة وارداتها لمواكبة الطلب المحلي. وبالتالي، بقي الميزان التجاري سلبياً وترجم ذلك بضغوط عالية ومستمرة لشراء العملات الأجنبية، لا سيما في السوق السوداء، ليضغط تاليا على قيمة الليرة السورية، ومعدلات التضخم المستمرة بالارتفاع.
تدابير تقشفية وغلاء المعيشة
في مواجهة هذا الوضع، اعتمدت الحكومة تدابير تقشف وعمدت إلى خفض الدعم على منتجات أساسية (كالخبز والمشتقات النفطية). وانخفضت قيمة الدعم الإجمالية في الموازنة السورية بالأسعار الحقيقية من 5,3 مليارات دولار عام 2011 إلى 1,6 مليار دولار عام 2023. وتتمثل الأهداف الرئيسة للحكومة في تقليص فاتورة الدعم المالية والنقدية، بتحقيق الاستقرار في سعر صرف الليرة السورية، وزيادة إيرادات الدولة، وخفض الإنفاق الحكومي (لا سيما على الدعم)، ومراكمة العملات الأجنبية.
تجدر الإشارة إلى أن الاستعدادات والتدابير الرامية إلى خفض الدعم كانت قد بدأت قبل عام 2011، ولا سيما في ما يتعلق بالمشتقات النفطية. ومثّل خفض الدعم، إلى جانب وقف التوظيف في القطاع العام والحد من دور الدولة في الاستثمار المحلي، جزءاً من سياستي التحرير والتخصيص الاقتصاديتين اللتين باشرتهما الحكومة السورية منذ بداية عام 2000 بمساعدة صندوق النقد والبنك الدوليين.
ترافق ذلك مع إطلاق الحكومة السورية تسمية "الاستراتيجيا الاقتصادية الجديدة" على "الشراكة الوطنية" عام 2016 استبدالا لتسمية "اقتصاد السوق الاجتماعي" السابقة التي أبصرت النور عام 2005. وتسعى الاستراتيجيا الاقتصادية الجديدة إلى تعزيز تحرير الاقتصاد ومراكمة رأس المال الخاص، ومن جوانبها الرئيسة قانون "الشراكات بين القطاعين العام والخاص" الذي سُنَّ في يناير/كانون الثاني 2016، ويخول القطاع الخاص إدارة أصول الدولة وتطويرها في مختلف القطاعات الاقتصادية كجهة مساهمة / مالكة تتمتع بالأغلبية، باستثناء قطاع استخراج النفط. ويهدف قانون "الشراكات بين القطاعين العام والخاص" الجديد إلى إعطاء الأفضلية للرأسماليين المحسوبين على النظام وتمكين سيطرتهم على الاقتصاد والأصول العامة على حساب الدولة والمصالح الوطنية، مع إفادة الحلفاء الأجانب أيضاً، ولا سيما روسيا وإيران.
وتعمل هذه السياسات على مفاقمة تدهور الظروف المعيشية لفئات كبيرة من السكان، وتوسيع نطاق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والمناطقية، وتعيد إحياء المعضلات التي كانت قائمة قبل اندلاع الحرب عام 2011، عدا عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تخلفها على السكان.
كذلك، يؤثر ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في مستويات الإنتاج كلها، بما في ذلك أجور العمالة، ورسوم النقل، وتكاليف المولدات والحياة اليومية للسكان في شكل عام. وللتعويض عن ذلك، منحت الحكومة مكافآت أو زيادات في رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين وأجورهم، غير أن هذه القرارات تعوض جزئياً فقط عن الانخفاض الكبير في القوة الشرائية للسكان، في حين أن الأفراد العاملين لحسابهم الخاص لا يستفيدون من أي تدابير مماثلة. وبلغت تكلفة سلة الإنفاق الأدنى، وهي مقياس لحساب تكلفة المعيشة استناداً إلى مقاييس برنامج الغذاء العالمي، لأسرة مكونة من خمسة أفراد، نحو مليوناً و441 ألف ليرة سورية في يوليو/تموز 2023، أي بزيادة 90 في المئة عن العام السابق.
بالمقارنة، فإن الحد الأدنى للأجور، الذي تضاعف في أغسطس/آب الماضي بموجب القرار الحكومي، لا يتجاوز 186 ألف ليرة سورية، وهذا يمثل 13 في المئة فقط من تكلفة سلة الإنفاق الأدنى في يوليو/تموز 2023. بالمقارنة، كان متوسط أجر الموظف الحكومي يساوي عام 2011 ما بين 200 إلى 320 دولاراً، في حين كان سعر صرف الدولار 47 ليرة سورية.
إضافة إلى المساعدات الإنسانية الدولية، أصبحت التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون السوريون إلى عائلاتهم والمقربين منهم داخل البلاد، شبكة أمان مهمة للمجتمعات المحلية. من دون هذه الأموال، لن تتمكن فئات كبيرة من السكان من تحمل النفقات اليومية، إلا من خلال الاقتراض و/ أو الشراء بالدين من التجار.
الحد الأدنى للأجور، الذي تضاعف في أغسطس/آب الماضي بموجب القرار الحكومي، لا يتجاوز 186 ألف ليرة سورية، وهذا يمثل 13 في المئة فقط من تكلفة سلة الإنفاق الأدنى في يوليو/تموز 2023. بالمقارنة، كان متوسط أجر الموظف الحكومي يساوي عام 2011 ما بين 200 إلى 320 دولاراً، في حين كان سعر صرف الدولار 47 ليرة سورية
كان للصدمات الخارجية أثرا كبيرا في الاقتصاد السوري، ولا تزال العقوبات المفروضة عليه تمثل عقبة أمام جذب الاستثمارات والتعاون مع الجهات الأجنبية، وإرساء الظروف المناسبة لعملية إعادة الإعمار وانتعاش الاقتصاد وتطوير قدرات الدولة. إلا هذه العوامل بالتأكيد ليست المشاكل الوحيدة.
عقبات في طريق الانتعاش الاقتصادي
ما هي ابرز العقبات في طريق الانتعاش الاقتصادي؟ يمكن الإضاءة على أبرزها كالآتي:
أولاً، يمثل غياب واقع اقتصادي يتسم بالأمن والاستقرار في سوريا، عائقاً كبيراً أمام تعزيز الاستثمارات المحلية والأجنبية. ولا يبدي العديد من المغتربين السوريين، بمن في ذلك رجال الأعمال الداعمين للنظام، رغبة في الاستثمار في البلاد لإيمانهم بأن الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية اللازمة لم تتحقق بعد، في وقت تقتصر الاستثمارات الأجنبية في معظمها على إيران وروسيا.
ثانياً، لم تتمكن الحكومة من تعزيز الوضع المالي للبلاد ووضع حد لانخفاض قيمة الليرة السورية المستمر، مما يقوض جاذبية العوائد المحتملة، السريعة والمتوسطة الأجل على الاستثمار في البلد، وبالتالي لا يوفر أي حافز لهذا الاستثمار، سواء من داخل البلد أو خارجه.
ثالثاً، تعاني سوريا من ضعف القدرة المالية، في القطاعين العام والخاص على حد سواء، وهي تفتقر الى بنية تحتية تشغيلية ووظيفية وقوة عاملة ماهرة.
كذلك، يشكل الدمار والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية ووسائل النقل في سوريا عائقا مهما أمام عملية إعادة الإعمار الواسعة المستقبلية. وبقيت استثمارات الحكومة في إعادة بناء البنى التحتية متواضعة، واقتصر معظم نفقاتها على المجهود الحربي وأجور القطاع العام والدعم، وهذه النفقات في تناقص مستمر.
لا يبدي العديد من المغتربين السوريين، بمن في ذلك رجال الأعمال الداعمين للنظام، رغبة في الاستثمار في سوريا لإيمانهم بأن الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية اللازمة لم تتحقق بعد، في وقت تقتصر الاستثمارات الأجنبية في معظمها على إيران وروسيا
في نهاية عام 2022، بلغت الودائع الإجمالية في المصارف الخاصة في سوريا، مثلاً، 1,97 مليار دولار (وفق سعر الصرف الرسمي في هذه الفترة البالغ 3,015 ليرة سورية للدولار الواحد)، مقارنة بـ13,87 مليار دولار عام 2010. وإضافة إلى عدم كفاية مصادر التمويل، يعاني البلد من نقص في القوى العاملة المؤهلة، مقترنا بمعدلات هجرة مستمرة وحادة، لا سيما في صفوف الخريجين الشباب والعاملين المهرة الباحثين عن ظروف معيشية أفضل، والمدفوعين بالتدهور المستمر في الوضع الاجتماعي والاقتصادي ونقص فرص العمل وانخفاض الرواتب.
بصيص أمل في "التطبيع" الإقليمي؟
تُعتبَر إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية وتطبيعها مع المملكة العربية السعودية في ربيع عام 2023 انتصارين سياسيين لدمشق بعد سنوات من العزلة. بيد أن هذا التطور السياسي ﻻ يعني عودة الانتعاش الاقتصادي والمالي وانطلاق وعملية إعادة الإعمار في البلاد في الأجلين القريب والمتوسط. إذ تركز عملية التطبيع حتى الآن على استعادة العلاقات الديبلوماسية بين دمشق ودول المنطقة، عوضا عن تعميق العلاقات السياسية والاقتصادية والتبادلات التجارية.
إلا أن أي تقدم محتمل في هذا الإطار، من شأنه أن يؤثر في سرعة أي انتعاش اقتصادي وحجمه في المستقبل وفي الدعم الدولي له. لكن التحديات القائمة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي متعددة ومترابطة.
في الختام، تكمن جذور الأزمة الاقتصادية في سوريا في الحرب المميتة التي يشنها النظام ضد فئات كبيرة من السكان وتدمير البنى التحتية، والسياسات النيوليبرالية المستمرة، بما في ذلك تحرير التجارة وممارسات الفساد لصالح شبكات التجار التابعة للقصر الرئاسي من جهة، وتدابير التقشف، بما في ذلك خفض أو وقف الدعم على المنتجات الأساسية، ولا سيما المشتقات النفطية. كما تعزز السياسات الاقتصادية الحكومية التنمية المفرطة لقطاعي التجارة والخدمات وتغذي الاستثمار المضارب، ولا سيما في قطاع العقارات، مصحوبة بإدارة ريعية للموارد (بما في ذلك الموارد غير الطبيعية) والفساد، مع الإمعان في إضعاف القطاعات الإنتاجية. في حين لم تُتَّخذ أي إجراءات أو تدابير ملموسة لمكافحة انخفاض قيمة الليرة السورية وارتفاع مستوى التضخم، لوقف انهيار قيمة الرواتب والقوة الشرائية للسكان.
واذا كان بقاء النظام مضموناً إلى حد ما، نتيجة لدعم حلفائه الأجانب، إلا أن المحافظة على الهيمنة السلبية على فئات كبيرة من المجتمعات المحلية ليس كذلك، الأمر الذي يغذي حالاً من عدم الاستقرار المستمر، تظهرت بالاحتجاجات الأخيرة وزيادة في الإحباط الشعبي.