ستاند أب تراجيدي

ستاند أب تراجيدي

في لبنان زوبعة. ليس موضوعها الفساد، ولا سوء الإدارة، ولا معدّلات الفقر القياسية. موضوعها شاب يدعى نور حجار، وهو كوميدي يقدّم "الستاند أب كوميدي"، وذلك بعد تداول مقطع فيديو له يبدو فيه على خشبة مسرح وهو "يسخر من القرآن الكريم".

لم أطلع على هذه القصة بداية من خلال مقطع الفيديو المذكور. بل من خلال فيديو آخر قفز على حسابي على منصة "إكس" وفيه شيخ غاضب، غاضب حدّ الانفجار، يشنّ بما لديه من فصاحة يمتلكها الخطباء عادة، هجوما كاسحا على الشاب نور حجار. أوّل ردّ فعل لي، أمام تماسك لغة الشيخ، وترابط أفكاره، وغضبه الذي بدا لي أصليا، هو أنني لمت في داخلي الشاب "المتهم" على فعلته تلك. إذ كيف يتعرّض بالسخرية إلى كتاب المسلمين المقدّس بالسخرية، مثلما يدّعي الشيخ. قلت في خاطري: هذا الشاب أخرق وضع نفسه في ورطة من أجل حفنة من الضحكات أو اللايكات، وتعزّز لديّ هذا الانطباع حين شاهدت مقطع الفيديو الذي يدور حوله الجدل.

لست من أشدّ المعجبين بعروض "الستاند أب كوميدي" العربية. أرى فيها استساخا مثيرا للشفقة للنموذج الأميركي الناجح ضمن خصوصيته الثقافية. وقد بيّنت الوقائع خلال السنوات أن محاولات تسويق هذا النمط عربيا لم تكن أقلّ فشلا من محاولة استيراد مسلسلات الكوميديا القصيرة على نمط "ساينفيلد" و"فريندز". لا أعرف بالضبط أسباب الفشل. لكنني، وبعد متابعتي قصة نور حجّار، خطر لي أن العرب ليسوا معتادين على فكرة وقوف شخص بمفرده على المسرح وسرده تفاصيل (مفتعلة) عن حياته، وحياة المحيطين به، بلغة تتوخّى الفطنة والمفارقة، وعبر مواضيع تلامس انشغالات الناس اليومية، ولاسيما العائلة والحب والجنس والمال والسياسة. هذا الحيّز محجوز عندنا للخطباء والساسة. وحدهم يحقّ لهم أن تصوّب دائرة الضوء على أشخاصهم وهم وقوف على المنبر يتكلمون بلا توقّف ويثيرون عواطف الجمهور وأفكاره. عبد الناصر كان يحتلّ بامتياز، في الواقع ثم في المخيلة الجماعية، هذا الحيّز. وبين رجال الدين المعاصرين يمكن أن نذكر زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصر الله. نحن نقبل كعرب أن يقف مطرب وحيدا على الخشبة، فنحن سنكون منشغلين بالرقص، منتشين بالألحان، أما أن يقف شخص "عادي" مثلنا ويعرض عضلاته الكلامية فحسب، فهو أمر لا تستسيغه جيناتنا الثقافية.

هذا الحيّز محجوز عندنا للخطباء والساسة. وحدهم يحقّ لهم أن تصوّب دائرة الضوء على أشخاصهم وهم وقوف على المنبر يتكلمون بلا توقّف ويثيرون عواطف الجمهور وأفكاره

على أية حال، وعلى الرغم من عدم استحساني هذا الفنّ عربيا، كان لابدّ أن أبحث عن المقطع الكامل لنور حجّار، خصوصا بعد أن قيل إنه كان قبل خمس سنوات وإنه كان مقتطعا من سياقه. وجدت المقطع وسرعان ما تبيّن لي أن المقطع مجتزأ بالفعل. وأن نور حجّار كان عمليا يدافع عن قدسيّة القرآن، ساخرا ليس منه، بل من بعض الظواهر الاجتماعية التي تتعامل مع سوره وآياته بوصفه زينة تقدّم للجمهور على الطلب.

الشيخ الخطيب في المقطع السابق لم يرَ المقطع الكامل على الأرجح. أو لعله رآه وشيء ما لا يعلمه سواه أقنعه بأن الإساءة واقعة واقعة، لا رادّ لها، وأن الغضب منصبّ على رأس الكوميدي الشاب لا محالة. وسواء علم أم لم يعلم، فإن المسألة عند مشاهدة المقطع الكامل، تتحوّل من التساؤل عن دوافع نور حجّار، إلى دوافع من يهاجمونه بهذه الطريقة التدميرية التي أدّت في النهاية إلى تحرّك دار الإفتاء اللبنانية والادعاء عليه، بما تسبّب بالقبض عليه وسجنه (قبل إطلاق سراحه بسند إقامة).

حقيقة ما قاله نور حجّار غير مهمة. دفاع المدافعين عنه غير مهم. توافر المقطع الأصلي الكامل الذي يدفع ببراءته مما نسب إليه، غير مهم أيضا. المهم الوحيد هو ذلك المقطع القصير الذي يبدو فيه يسخر من بعض الآيات القرآنية. لن يكون دفاع الشاب مفيدا الآن. ولا البيان الذي أصدره بلغة تفيض ارتعاشا وذعرا مستحقّين على نفسه وأهله، نافيا فيه الإساءة. لن يكون مفيدا له سوى أن يختفي، على الأقل ريثما تظهر قصة جديدة، وضحية جديدة تشغل أهل منصات التواصل. هذا ما تعلمناه خلال السنوات القليلة الماضية ما انتشار ما يسمّى "ثقافة الإلغاء" المنتشرة في شرقا وغربا، ولا يختص بها لبنان وحده ولا العرب وحدهم. يبدأ الأمر بحادثة صغيرة أو مشهد هامشي أو تعليق متسرّع، وسرعان ما يتحوّل إلى حملة يتبنّاها طرف أو أطراف، ويحلّ في قلب الجدل فيها شخص أو أشخاص، تستمر بضعة أيام ثم تختفي مثلما بدأت. هذا في الظاهر فحسب، أو بقدر ما يعني مستخدمي التواصل الاجتماعي الذين ينتقلون في مجموعات سعيدة من قصة إلى قصة، ومن فضيحة إلى أخرى. أما بالنسبة إلى الضحايا أنفسهم، فإن المسألة أبعد ما يكون عن أن تنتهي. أن تجد نفسك محور "فضيحة" (أمر يثير شهية المتعطشين للأضواء فحسب، وحتى هؤلاء سرعان ما يندمون)، ومركز نقاش عام، ليس بالأمر الممتع على الإطلاق. وكلي ثقة أن جيني هيرموسو، مركز فضيحة القبلة الشهيرة في إسبانيا، كانت تفضل الاحتفال مع زملاءها وأحبائها بفوز فريقها ببطولة كأس العالم، على أن تضطر إلى الدفاع عن نفسها علنا من أن الاعتداء الذي وقع عليها، لم يكن لها يد فيه.

ليس من عاقل يرغب في أن يجد نفسه في هذا الموقع، وفي هذا الفضاء المليء بالكراهية والتشفّي والحقد والسخرية. لا أحد يملك قدرا ولو ضئيلا من الإحساس يرضى بأن يقايض خصوصيته بشهرة سلبية عابرة تتحقّق له.

نور حجّار ليس سعيدا حكما. ستنتهي القضية بعد أن يشعر من شنّوا الحملة بأنهم اكتفوا من نهش لحم ضحيتهم والبدء بالبحث عن ضحية جديدة. لكنّ نور نفسه سيظلّ مقيما طويلا في قلب الذعر الذي عاشه لأيام


نور حجّار ليس سعيدا حكما. ستنتهي القضية بعد أن يشعر من شنّوا الحملة بأنهم اكتفوا من نهش لحم ضحيتهم والبدء بالبحث عن ضحية جديدة. لكنّ نور نفسه سيظلّ مقيما طويلا في قلب الذعر الذي عاشه لأيام. سيظلّ يتلفت حوله خائفا من طعنة سكين أو طلقة رصاص أو من لكمات غادرة تنقضّ عليه. سيظلّ يتساءل، مثلما يوحي بيانه، لماذا يكرهونني إلى هذا الحدّ؟

قبل نور حجّار اتهم الفنان المسرحي زياد عيتاني بتهمة تبدو اليوم ألطف من تهمة حجّار، وهي العمالة لإسرائيل. سجن الرجل شهورا حرم خلالها من كلّ عزيز عليه، ولعلّ الأقسى من المكيدة الأمنية التي دبّرت له، هي أجواء الاتهام الاجتماعية التي أحاطت بالمسألة والتي جعلت بعض أقرب أصدقائه في حينه يتبرؤون منه. ثبتت براءة عيتاني، لكن المسألة لم تنته. في ثقافة عربية قائمة على الوصم يصعب كثيرا على الضحية التخلص من جميع الآثار دفعة واحدة.

براءة نور حجّار قائمة قبل أن تكون هناك محاكمة أصلا، وهي كامنة في المقطع الكامل للفيديو الذي تكلم فيه قبل خمس سنوات. لا أحد يريد أن يسمع. وسيحصل حجّار على البراءة في نهاية المطاف. لكنه لن يحصل على العدالة، لأنّ العدالة تعني أن يحاسب جميع من اتهموه زورا، أو أن يعتذروا منه على الأقلّ. وهو ما يعرف نور، ونعرف جميعا، أنه لن يحصل.

font change