كنّا ننتظر أن تكون مئويّة صدور "النبي" لجبران خليل جبران مناسبة احتفاليّة به ومحطة لإعادة قراءته قراءة تحليليّة جدّية تُضيء جوانب إبداعيّة من أنضج تجارب جبران وأهمّها وأكثرها انتشارا في العالم. فـ"النبي" يعتبره العديدون من الشعراء "كِتاب الكُتب" وكما وصفه صاحبه "ولادته الجديدة".
وعندما عرفنا أنّ الشاعر هنري زغيب يهمّ بترجمة جديدة في هذه المناسبة قلنا عال، ولكن أتحفنا زغيب بمفهوم جديد للترجمة في مقابلة أجرتها معه الزميلة سوسن الأبطح في جريدة "الشرق الأوسط" يوم الأحد 6-8-2023، فسّر فيها الطريقة التي نقل فيها "النبي" إلى العربيّة، فإُصبنا بالصدمة، لنجد أنّه اخترع مفهوما هجينا للترجمة يتنافى مع أصولها وتقاليدها وجوهرها. قال: "رأيت أن أنقل النبي إلى عربيّة حديثة تُراعي نصّ اليوم" عال! ثمّ يقول: "اعتمد جبران لغة تبشيريّة سكبها في لغة لا تخلو من البطء(!) والتراكيب والاستعارات التي كانت حينئذ رائجة" (يعني أنّ زغيب "سكب" النص في لغة رشيقة هي بنت عصره اليوم لا عصر جبران).
فهو هنا يعتبر نص جبران مجرّد فرض مدرسي يصحّحه كمترجم وينقله من عصر إلى عصر، عصر جبران العتيق وزغيب الجديد والطليعي، عصرٌ من "غبار اللغة العربية" وعصر صفائها. يعني أنّ زغيب يتصرّف ويتدخّل في أسلوب الكتاب، كأن نظن أنّه يصوغه من جديد، أي زغيب هو جبران الجديد صاحب "النبي الجديد" الذي وُلد مع صدور الكتاب. وها هو يمتلئ فخرا وتشوّفا بأنّه أنقذ الكتاب في مئويته؛ ونظّفه، وفتح ما "يعتوره من تراكيب مألوفة ومفردات مكرّرة وحواشٍ تنقل انسيابه" أي حوَّله من كتاب جامد إلى نصٍّ سائل رقراق ومرشاق ومتدفّق ليدرك من خلال ذلك "معنى المعنى" لأنّ الترجمة كما تصوّرها أو توهّمها "تنقل فكرة صاحبها لا أسلوبه ولا صوغه ولا بصمته" رائع! يعني أنّه دوزنه دوزنة مليحة لأنّ "الترجمة الحرفيّة غالبا ما تكون كاريكاتوريّة". وهنا يخلط بين الترجمة الحرفيّة والترجمة الدقيقة الوفيّة لإيقاع النصّ وبنيته وأسلوبه وهو يناقض نفسه من خلال مقولته: "الترجمة تنقل فكرة صاحبها لا أسلوبه"، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا غيَّر أسلوب جبران؟ ومتى كانت الفكرة منفصلة عن الأسلوب أو لا يُقال "ليس المهم ما نكتب بل كيف نكتب"؟. هكذا يقفز زغيب من تحديد إلى تحديد للترجمة.
يتصرّف زغيب ويتدخّل في أسلوب الكتاب، كأن نظن أنّه يصوغه من جديد، أي زغيب هو جبران الجديد صاحب "النبي الجديد" الذي وُلد مع صدور الكتاب
يُذكّرني زغيب بمترجم جديد لشكسبير آثار ضجّة عند رجال المسرح في فرنسا، المترجم هو جاك زيون الذي ما إن نقل إلى الفرنسيّة "الملك لير" لشكسبير حتى هاجم كل الترجمات التي قام بها بعض الكتّاب والشعراء الفرنسيّين لصاحب "هاملت". وقال في مقابلة صحافيّة أجرتها معه إحدى المجلات الفرنسيّة: "قمت بترجمتي لأنّني قرأت كلّ الترجمات الفرنسيّة (زغيب لم يقرأ الترجمات التي قام بها كتّابٌ عرب)، ووجدتها كلّها غير صالحة للتمثيل. فخطأ المترجمين كما يقول يعود سببه إلى انطلاقهم من مبدأ سيّئ "علينا أن نحتفظ بالحدّ الأقصى من احترام النص"، ليخلص "إذا وجدنا نصّ شكسبير أو غيره ثقيلا فلا مانع من حذف ثلاثة أرباعه". وماذا يبقى من مسرحية شكسبير. أي أنّه تجاوز مهمّة المترجم إلى مهمّة ربّما المُخرج أو الكاتب. وقد وقع زغيب في هذا الفخ، وتجاوز مهمّته... لكن زغيب يبرّر "لكلّ لغة عبقريّتها الأصليّة فمن الضروري الترجمة بعبقريّة اللغة الجديدة" (اي لغته العبقريّة)، بمعنى أنّه غيَّر من نصّ جبران وأحلّ محلّه ربّما أسلوب سعيد عقل أو ميخائيل نعيمة، وهكذا يصحّ لنا أن نترجم إليوت بلغة أراغون وننقل "هاملت" بلغة أندره بريتون.
إنّ ذلك يشكّل اعتداء على مفهوم الترجمة التي لم تسمح بتاريخها وتجاربها تعديل النصّ المُترجَم بنكهته ودمغته.
يمكن أن يلجأ مخرج سينمائي ويقتبس "النبي". أو قصيدة "المقبرة البحريّة" لبول فاليري أو مسرحيّة لشكسبير أو رواية لنجيب محفوظ، فله الحق في تغيير عمق النص أو توارده. فالاقتباس هو تناول نصّ وإسقاط رؤية المُخرج أو الكاتب عليه. وهذا شائع. فالاقتباس أحيانا كثيرة يكون بإسقاط مفهوم المُخرج عليه وتحويله إمّا مسرحيّة أو فيلما سينمائيّا. بل يمكن أن يحوّل مُخرج ما "الملك لير" لشكسبير إلى مونودراما (ممثل واحد) أو يحذف شخصيات ويختصرها بثلاث أو حتى يغيِّر نهايتها وسياقها.
فالمسموح للاقتباس يختلف عن مفهوم الترجمة: عالمان متباعدان: وهنا بالذات يمكن التمييز بين الترجمة الحرفيّة والدقيقة، المرتبط بطبيعة الأثر.
فقارئ اليوم يريد أن يقرأ المتنبّي أو بودلير أو دانتي جديدا، من دون أن يُعصرن لا المتنبّي ولا بودلير. قراءه سيميولوجيّة أو بنيوية أو تفكيكيّة أو تاريخيّة. فلماذا لا يلجأ زغيب إلى عصرنة مسرحية سعيد عقل "قدموس" أو خماسيّاته التي نشرها في مجلة "الصيّاد" في الستينات، ويُعصرنها أو يُجدّد شبابها بعدما شاخت وشبعت شيخوخة.
دور المترجم أن يفهم النصّ ويستقرئ تعبيره وعمقه، لتكون ترجمة جديدة؛ أمّا نقد النصّ المترجم وممارسة نقده بتصحيحه، وتبديله، فهراء. وما ارتكبه زغيب خطأ في المفهوم وفي التفسير وفي الترجمة
فالقارئ الجديد يريد أن يقرأ النصّ الأصلي كما كُتِب في عصره، ليفهم ظروفه ولغته، ومدى صموده.
نكرّر دور المترجم أن يفهم النصّ ويستقرئ تعبيره وعمقه، لتكون ترجمة جديدة؛ أمّا نقد النصّ المترجم وممارسة نقده بتصحيحه، وتبديله، فهراء. وما ارتكبه زغيب خطأ في المفهوم وفي التفسير وفي الترجمة.
أمّا تبجّحه بأنه "أنقذ" "النبي"، فدليل على تشاوف، ووقوع في "جنون العظمة". فيا ليته تواضع قليلا، ونقل "النبي" كما هو... ويكون بذلك أدّى خدمة جليلة للجيل الجديد!
أنا لم أقرأ النص، واكتفيت بمقالة الشاعر عبده وازن الذي عبّر فيه عن عمق في التحليل، وأمانة للترجمة وإبداع في تفنيد أسلوب زغيب المحشو بالادّعاء والفوقيّة!
لقد فات زغيب أن جبران بـ"النبي" اكتسح العالم، ونافس شكسبير والشاعر الصيني لاوتسو وأنّه تُرجِم إلى 60 لغة، وباع ووزّع ملايين النسخ حول العالم.