تلفت أبو عودة النظر إلى أمر مهم حيث أن "الكثير من الشباب في غزة يقبلون على تعلم السباحة، فبسبب الحصار المفروض على غزة من قبل الاحتلال، يواجه الشباب مأزق السفر عبر معبري غزة، إيرز من الشمال، ورفح من الجنوب، لذا يقومون بإعداد أنفسهم لهجرة غير شرعية، عبر البحر، إنه انتحار من نوع آخر".
وفي حين تؤكد أبو عودة أن هناك مراكز اجتماعية تهتم بحالات الانهيار النفسي، "لكن القليل منها يتوجه إليه أهل قطاع غزة، خوفا من فكرة الوصمة الاجتماعية، كأن يشيع بين الناس بأن لدى العائلة شخصا مجنونا، وفي حال أتى أحد أفراد العائلة مع المريض إلى المركز النفسي فإنه لا يخبر الاختصاصي بكل شيء، لاعتبارات دينية أو اجتماعية، وهذا ما يؤدّي بعد وقت إلى تأزّم حالة المريض".
وتطالب أبو عودة الجامعات الفلسطينية بدعم المتخرجين، المتعثرين في دفع رسوم تحرير الشهادات، فالجامعة تقف حجر عثرة في مستقبل المتخرج، بمنعه من تسلم شهادته، ما لم يسدّد الرسوم، غير المتوفرة أصلا.
وتفيد أبو عودة بأن المجتمع الغزي، بحاجة إلى المزيد من التوعية والتثقيف، بأهمية الطب النفسي، من خلال البرامج المختلفة لدى مؤسسات المجتمع المدني، لكنها تؤكد أيضا دور خطباء المساجد في ذلك، كون المجتمع الفلسطيني يتأثر بالخطاب الديني بشكل كبير، وترى أن هناك تجاهلا غير مفهوم من الخطباء لظاهرة الانتحار.
رفض الطب النفسي
أما الطبيب النفسي إسماعيل أهل فيعتبر في تصريحات لـ"المجلة" أن فكرة الرفض الاجتماعي للطب النفسي، والإعراض عنه، "من أهم الأسباب التي تؤدّي في النهاية إلى انتحار الشباب، إذ تلجأ العائلة إلى بعض من يدّعون التديّن والمشعوذين، وتخبرهم بأسرارها، وهذا أمر مرتبط بالثقافة السائدة، والانطباع العام الذي ورّثته الأفلام والمسلسلات العربية القديمة، باتهام المريض النفسي والطبيب كذلك، بالجنون، وهي محاولة مستمرّة من الأهل بالابتعاد عن فكرة الوصمة الاجتماعية، وهذا يعود إلى الجهل العام بأهمية الطب النفسي".
الدكتور اسماعيل أهل
ويُرجع الدكتور أهل، وجود الاضطرابات النفسية، والأمراض بين الشباب، إلى عوامل مختلفة: "إن التنشئة الاجتماعية الخاطئة من قبل الأهل، إما لوجود خلافات أسرية، أو لصدمات نفسية منذ الطفولة، وكذلك ما يترتّب على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السيئة، بعد الانقسام، وغياب رؤية واضحة للمستقبل، بالإضافة إلى وجود نماذج سلبية داخل المجتمع إما في الواقع، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، تؤثر سلبا على الشباب، وتبث أفكارا هدّامة، كلها أسباب تساهم في انهيار المريض النفسي، واللجوء إلى الانتحار".
طريق آمن
يساهم وجود مؤسسات تقدّم الاستشارات النفسية في غزة، في الكثير من الأحيان، في إنقاذ أشخاص عانوا من الاكتئاب، وإعادتهم إلى الطريق الآمن، وإقناعهم بالتعايش مع الواقع السيئ، لكن معظم من يقدمون على الانتحار، يكونون قد فقدوا القدرة على التحمل، وأخذوا القرار بالقفز من القطار السريع.
يقول الدكتور أهل: "هنا في غزة أكثر من ثلاثمئة مؤسسة تقدم الخدمات الصحية النفسية، وهي قادرة على استقبال المرضى والتعامل معهم، لكن تغيب، إلا في ما ندر، ثقافة اللجوء إلى هذه المؤسسات".
التشخيص الفارقي
وفي ظل كثرة حالات من يعانون من اضطرابات نفسية، فإن الأطباء النفسيين يتدخلون من خلال التشخيص الفارقي الذي يحدّد مدى خطورة الاضطراب النفسي وحدّته، والأثر المترتب عليه، ولا سيما احتمال أن يؤذي المريض نفسه أو المحيطين به، أو الطبيب ذاته، "لكن للأسف، الكثير من المحيطين بالمرضى لا يأخذون بهذه الاستشارات، وتكون النتيجة، السقوط في اللهاوية"، كما يؤكد الدكتور أهل.
هنالك الكثير من المحيطين بالمرضى النفسيين، يجهلون خطورة التهاون في علاج المرض أو حتى لا يعرفون بأن هناك فردا من العائلة ينحدر نحو المرض النفسي، ومنهم من يفترض أن المريض يمثّل ويدّعي المرض، وهذا ما يفاقم من خطورة المرض مستقبلا. ويوضح الدكتور أهل أن هنالك علامات تدل على الاضطراب النفسي، يجهلها المجتمع، منها: "تغير عادات الأشخاص وسلوكهم وتفكيرهم بصورة حادّة، تصاحبها تقلبات في المزاج. كما يمكن ملاحظة الرفض التام للعادات والتقاليد والثقافة الاجتماعية، ورفض الواقع والميل الى السلبية والعنف، بشكل مستمر".
تكسّب على كتف المريض
ويرى الدكتور أهل أن العائلة وذوي المريض النفسي يتحملون أحيانا وزر ذهاب المريض إلى الانتحار: "هناك بعض الأهالي ينتفعون من المبالغ المالية المخصصة من الجمعيات الخيرية للمرضى النفسيين، ويستخدمونها لشراء حاجياتهم، ويتركون المريض النفسي سارحا في الشوارع، دون عناية، ومن الغريب أن تمر هذه الأمور دون متابعة ومحاسبة قانونية، قبل وقوع الانتحار وبعده".
جنحة أم جناية؟
أما المتخصص القانوني المحامي محمد المصري فيشرح عبر "المجلة" الأبعاد القانونية للانتحار، ابتداء من تعريفه: "إن إزهاق الشخص روحه يعتبر انتحارا". ويورد المصري أن القانون الفلسطيني يعاقب على الشروع في الانتحار، حسب القانون رقم 74 لسنة 1936، المادة 225، ويعتبر ذلك جنحة، كما يعاقب كل من شجع الآخر ودفعه إلى الانتحار ويعتبر هذا جناية".