بين الفارسية والروسية... صراع ثقافات في سورياhttps://www.majalla.com/node/298561/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
كان عام 2008 في سوريا، هو أكبر تظاهرة للغة العربية، تشهدها البلاد. فالحكومة احتفت عبر مؤسساتها كافّة بعام دمشق، عاصمة للثقافة العربية، وبدا واضحا ميل السياسة السورية إلى اعتبار الحضن العربي ملجأ حيويا مهمّا للتفاعل والعمل السياسي، والانغماس في اللغة العربية كأفضل طريقة لتحقيق الانتماء وقيادة الدور العروبي.
في هذا الإطار، غدت اللغة العربية الشكل الثقافي الوحيد الذي يجب التفاعل معه، إلى الحدّ الذي تحوّل فيه التركيز على اللغة العربية إلى مدار تندّر اجتماعي، وأصدرت الحكومة السورية قوانينَ تمنع استخدام أي لغة غير العربية في أسماء المتاجر والمؤسسات الخاصة، وعرّبت الأسماء الأجنبية للمحلات بشكل بدا مبالغا فيه، وظهرت الترجمات العربية لتلك الأسماء بصورة إجبارية وتحت طائلة الغرامة القانونية. ونُشرت عبر المراكز الثقافية تظاهرات للحرف العربي، واستقبلت الجرائد والمجلات كتابات هائلة عن اللغة العربية ودورها واتساع معالمها وقدراتها، وحملت كل مشاريع التنمية الموجّهة للطفل طابعا شكليا، من رسومات الحرف العربي إلى جعل المواطنة قضية لغوية، وأسبغت على اللغة العربية أبعادا سياسية قد لا تستطيع اللغة نفسها حملها.
لم يوفّر النظام السوري والحكومة الإيرانية جهدا لتكريس الشكل الرمزي للجمهورية الإسلامية، بدءا من توكيد عمق العلاقات بين الشعبين ومحاولة جعل المجتمعين ضمن حالة واحدة سياسيا
منذ عام 2011 بدأت ثقافة تقديس اللغة العربية تنحدر، ولم تعد مكرّسة في واجهة الدعاية السياسية والثقافية، وبرزت اتجاهات سياسية سورية جديدة، لن يكون التركيز فيها على الهوية اللغوية، كشكل من أشكال المواطنة، أو كتعبير عن الهوية والانتماء فقط، بل أُضيفت إلى هذا إشاعة شعارات تصف اللغات العالمية كالإنكليزية والفرنسية بأنها لغاتٌ استعمارية، وبأن تعليمها لا يشكّل أي قيمةٍ حقيقية، وذلك على الرغم من تدريسها في المناهج السورية منذ المرحلة الابتدائية والإعدادية، إضافة إلى أن الحكومة السورية تتمسّك منذ نشأة معهد الطب في جامعة دمشق عام 1919 إلى اليوم بتدريس الطب باللغة العربية، ويعتبر النظام السوري هذا التمسك تحدّيا للهيمنة الاستعمارية. شيءٌ من هذا، كان في تصريح وزير الخارجية الراحل وليد المعلّم (1941-2020) بأن سوريا "نزعت أوروبا من الخريطة".
اصطدم الاستخدام الاعتباطي لفكرة اللغة كتعبير عن الهوية، بثقل العلاقات المقرّبة مع الجانب الإيراني، وعلى الرغم من امتداد العلاقات بين النظام السوري وإيران، منذ ثمانينات القرن المنصرم، إلا أن الأحداث التي شهدتها سوريا بداية من عام 2011 وسّعت حدود الوجود الإيراني، بشقّه السياسي والعسكري والاقتصادي، وما استجدّ هو البعد الرمزي متمثّلا في اللغة والشأن الثقافي عموما، وظهرت الطبيعة الرمزية للسياسة الإيرانية في المنطقة ومعها التناغم السوري مع البعد الاستراتيجي الإيراني. وقد جعل التقارب السياسي مع إيران، الحكومة السورية في مواجهة ثقافية لا بدّ من التعامل معها، إذ امتلكت الدولة الإيرانية بإيديولوجيتها التي لا تنكرها بتصدير الثورة، خططا تتواءم مع دخولها الواسع إلى الواقع السوري. فلم تكتفِ بالتعاضد العسكري والسياسي، بل حاولت جعل الجمهورية الإسلامية في مركز حضاري وثقافي، ضمن ساحة اجتماعية سياسية غير مقاومة لها، أو لا تملك خيارا أو قدرة اجتماعية على التصدّي لها. سيطرة النظام المطلقة على سياقات النشاط الاجتماعي والسياسي، جعلت العمل الإيراني يظهر بأنه متاحٌ ومقبولٌ لطالما هو بالاتفاق مع النظام. ولم يوفّر النظام والحكومة الإيرانية جهدا لتكريس الشكل الرمزي للجمهورية الإسلامية، بدءا من توكيد عمق العلاقات بين الشعبين ومحاولة جعل المجتمعين ضمن حالة واحدة سياسيا، وتوسيع بعض المراقد الدينية الشيعية لجعلها ضمن الزيارات السياحية الإيرانية إلى سوريا كتبادل ثقافي روحي، وصولا إلى دعم قطاعات تربوية وثقافية سورية، كالمساعدة في المطبوعات الورقية للمناهج السورية، أو دعم المدارس الحكومية وإعادة إعمارها، وإعادة بناء مراكز ثقافية لتعليم اللغة الفارسية، ومحاولة جعلها ضمن الآلية التعليمية للدولة السورية. وقد نشرت وزارة الثقافة السورية عشرات الكتب المتعلقة بالجمهورية الإسلامية وثقافتها، حيث بدأت أسابيع الثقافة الإيرانية تحظى باهتمام أكبر، وخلافا لأي تظاهرة ثقافية أخرى، كان للواجهة الدينية الإيرانية وجود داخل كل تظاهرة ثقافية. ونشطت المراكز الثقافية الإيرانية في توزيع منشورات عن الثقافة الإيرانية ورموزها السياسية والدينية.
صنعت المناخات الجديدة داخل الثقافة السورية، نتيجة التقارب بين الدولتين، أبعادا اجتماعية وسياسية ودينية بشكل كبير وخاص، لارتباط الثقافة الإيرانية بالعقيدة الدينية على نحو لصيق وبنيوي. وعلى الرغم من امتداد العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الدولتين، إلا أن الحراك الذي شهدته البلاد منذ عام 2011، جعل سوريا في موقع غير ثابت أمام التأثير الإيراني، فبدأت وتيرة عمليات زرع الثقافة الإيرانية تتصاعد وتنخفض تبعا لعلاقات النظام السياسية، وتبعا لاحتياجاته من الدولة الضيفة. فالتعاون حتى عام 2023 وصل الى نحو 19 اتفاقاشملت اتفاقات مشتركة لتبادل الخبرات العلمية بين وزارتي التربية في البلدين. لكن جلّ الاتفاقات كان قبل الوصول الروسي للمنطقة. وكان عام 2014 استثنائيا بالاعتراف بتأسيس مدرسة شيعية (الرسول الأعظم) في ريف اللاذقية، وجعل المذهب الشيعي ضمن العملية التدريسية الشرعية. مع توسّع نشاط المدارس الفارسية في المناطق الأهلية الشيعية، علما أن اختلاط الثقافة الرمزية بين الديني واللغوي لا يمكن تحديده تماما في النشاط الإيراني داخل سوريا.
دمشق واللاذقية
شهدت المراكز الثقافية الإيرانية في دمشق واللاذقية اهتماما طالبيا وثقافيا لكثير من الطلاب الذي سعوا الى تعلم اللغة الفارسية، وبحسب الكثير من الطلاب الذين استطعنا الوصول اليهم فإنّ الأمل في المنح الجامعية كان الهدف المنشود من وراء ذلك، خاصة أن الاهتمام الإيراني في الجامعات السورية، كإنشاء مختبرات تقنية متطورة، والبعثات العلمية، حفّز حالة اجتماعية لدى الكثيرين لارتياد معاهد تعليم اللغة. وتصاعد عدد المشاركين في الدورات التعليمية للغة بشكل ملحوظ في دمشق واللاذقية.
لم تكن الاستجابة للغة الفارسية واسعة الطيف داخل المجتمع السوري، فقد أضرّ الخلط بين الإيديولوجي والثقافي بالسمعة الإيرانية داخل المجتمع السوري، إذ أن محاذير الدين والمعتقد تجعل إيران في محلّ الشك الدائم في سياستها وآلية عملها. عموما تتمظهر عملية نشر الثقافة الإيرانية بشكل كلاسيكي (اللغة والدين والأسطورة)، وهذا ما يجعلها في مواجهة حقيقية مع مجتمعات تملك ثقافة ذاتية عميقة الجذور، ومن الصعب اجتذابها نحو أبعادٍ ثقافية نزاعية ومختلفة تماما عن ثقافة المنطقة، ومع مجتمعات تتمسّك بعاداتها وتقاليدها ورؤاها. كان الإيرانيون يواجهون صعوبات كبيرة في محاولاتهم نشر ثقافتهم ولغتهم، لذلك كثيرا ما حاولوا جذب الشباب السوري عبر المنح العلمية والتعاون مع الجامعات السورية لفتح باب السفر والتحفيز العلمي لتطوير السوريين عبر العلم لا الإيديولوجيا، لكن الوصول الروسي جعل إيران تدفع ثمن آليّتها الكلاسيكية وتفشل بشكل أكثر وضوحا أمام المنافسة الروسية في تعميم البعد القومي والثقافي، وإقناع المجتمع السوري بالانجذاب الى المشروع الخاص لإيران.
على الرغم من عدم فهم أو تقدير البيئة السورية وظروفها وتغيرات مزاجها، استطاع الجانب الروسي وضع قدميه بشكل كبير داخل الثقافة السورية
منذ عام 2015، بدأت فروع الجامعات الإيرانية تأخذ حصة في الحقل التدريسي السوري، وتشرّع عمل جامعاتها الخاصة داخل الكليات السورية. لم تلجأ إيران الى آلية عمل خاصة لنشر الثقافة الفارسية اللغوية بعيدا من التخطيط مع الدولة السورية، فحاولت جملة من القرارات السورية تحفيز الانجذاب الى اللغة الفارسية، وإلى نشاط المراكز الثقافية أيضا. لكن هذا لم يتجسّد في الواقع السوري بشكل جذاب. ويمكن رصد التطور التاريخي لنشاط المراكز الثقافية الإيرانية منذ عام 2011 وصولا الى بداية التدخل الروسي في سوريا. في 2018 أعلن وزير العلوم والأبحاث والتكنولوجيا منصور غلامي، إنشاء فرع لـ"جامعة تربية مدرس" الإيرانية، بهدف "مساعدة الطلبة السوريين على إكمال تعليمهم الأكاديمي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه داخل بلادهم"، بدلا من السفر الى إيران.
لا توجد إحصائية رسمية لعدد دارسي الفارسية في #سوريا، إلا أن عدد دارسي اللغة الفارسية يفوق دارسي الروسية بكثير.. وعدد الطلاب السوريين الذين يدرسون اللغة الروسية، وصل إلى 25 ألف طالب، في إحصائية رسمية تعود لمنتصف الشهر الجاري https://t.co/7wkye3gKTf#العربية
مطلع عام 2018، أعلن تأسيس "كلية للمذاهب الإسلامية" في العاصمة دمشق، وفي 12 يونيو/حزيران من العام نفسه افتتحت الجامعة الإسلامية الحرة "آزاد إسلامي" الإيرانية فرعا لها في سوريا. وتراجعت المنح الدراسية نحو إيران، وبدأت المدارس الشيعية في الأرياف السورية بالإغلاق. علما ان المدارس الشيعية حاولت التقرّب من تلامذة الإعدادية مثلا في ريف اللاذقية وجبلة، بإهداء كتب دينية الى المتفوقين ككتاب "المقتطفات" لصاحبه المؤلف ابن رويش الأندونيسي، وهو كتاب ديني يُطبع في إيران للمذهب الشيعي، ونسخ من المصحف الكريم وكتب تعليمية للصلاة. هذا ما جعل المشروع الإيراني الثقافي في أزمة دائمة مع المجتمعات التي ينشط فيها، خاصة إلزام الفتيات مثلا إرتداء الحجاب، أو اشتراط التعليم والدعم المالي بإتقان القرآن.
شحّ المحفّز والوصول الروسي
يشير نعوم تشومسكي إلى ما يسمّيه "شح المحفّز"، أي أن طبيعة كل لغة يُراد اكتسابها تحتاج محفّزا. لم تكن طبيعة هيمنة النظام الاجتماعية كافية لإشاعة اللغة الفارسية، والمفارقة الواسعة بين رؤية النظام السياسية وطموحات الشباب واستعداداتهم للانجذاب الى البعد الثقيل للسياسة الإيرانية، خاصة إنتاج إيران لخطاب سياسي مفتوح فيه العقيدة واللغة، جعلت النشاط أو الميل نحو اللغة الفارسية محدودا، لكن إيران لم تكن تستطيع أن تتنازل عن الفوائد الكبيرة التي كانت ستجنى من انتشار اللغة الفارسية، وذلك على المستوى الاجتماعي والتفاعلي. الانجذاب الذي حصلت عليه كان محدودا لكنه مؤثّرٌ وكافٍ لإنتاج معنى اجتماعي وسياسي، وترك الصلة مفتوحة مع المجتمع السوري، خاصة أن النشاط الإيراني لا يتوقف، وشديد التعاون في ما يخص مصالح إيران الاستراتيجية، ودعم النظام والمجتمع السوريين.
كانت بداية التدخّل الروسي مختلفة. اندفع نحوَها النظام أكثر من اندفاعه نحو إيران، فكان التأثير الثقافي الذي أرادت الحكومة تكريسَه للروس أكبر وأعمق، فالعلاقة مع روسيا تعني التعامل مع دولةٍ عظمى، وثقافةٍ عالمية أكثر رواجا وتأثيرا مقارنةً بالثقافة الإيرانية وآليّتها في العمل والتفاعل. محدوديّة التفكير العقائدي الديني وانغلاقه جعلا السوريين والنظام السوري في حذرٍ شديد، ولطالما شكّل الحياد عن الأزمة الصراعية بين العرب والفرس مشكلة في أروقة النظام السياسية والحياة اليومية للسوريين. أما مع الروس فبدا الأمر أكثر سهولة. منذ اليوم الأول لوصول الروس إلى سوريا، بدأت القنوات الإعلامية التابعة للحكومة السورية بنشر أغانٍ روسية، أغلبها يعود الى زمن الاتحاد السوفياتي، وعرض مقاطع فيديو تدل على قوة الآلة العسكرية الروسية بمقاطع ترويجيّة بعضها كان من المعارك التي قادتها روسيا داخل سوريا، واستُقبل الروس بشكل احتفائي رعته القنوات الرسمية بمختلف الأشكال. بعد عامين من الوصول الروسي، احتفي باللغة الروسية وجُعلت خيارا دراسيا لتلامذة المرحلة الاعدادية والثانوية. وأيّد كبار المسؤولين السوريين البعد الروسي للثقافة، ومحاولة تحويل السوريين نحو البوصلة الروسية، والانخراط معها في قضاياها. كان هذا كله يتم في مرحلة كان الروس فيها ينشطون على الساحة العالمية، مُشهرين نزعتهم السياسية الجديدة أيضا، في التعميم القومي والحضاري، وجذب أنصار للمشروع الاستراتيجي الخاص بهم.
حكومة #النظام_السوري تعلن تقديم 500 منحة دراسية روسية للمرحلتين الجامعية الأولى والدراسات العليا بعد أيام قليلة من إعلان #إيران سعيها لإدراج اللغة الفارسية بالنظام التعليمي في #سورياhttps://t.co/VvOI0KcHbB
بعيدا من التنافر المعرفي الذي أصاب السوريين منذ عام 2008 حتى يومنا هذا في التلاعب بالمؤثرات الثقافية واللغوية، وعدم فهم أو تقدير البيئة السورية وظروفها وتغيرات مزاجها، استطاع الجانب الروسي وضع قدميه بشكل كبير داخل الثقافة السورية. للروس بُعد اجتماعي ومعرفي كبير في سوريا، آلاف المتخرجين السابقين من الجامعات الروسية أثناء زمن الاتحاد السوفياتي، شكلوا ذاكرة حميمية مع الثقافة الروسية، والحكومة السورية في تكريسها اللغة الروسية ضمن المرحلتين الإعدادية والثانوية أعطت الدور الروسي شكلا تلقينيا أكثر صلة بالعملية التعليمية، ودورا أبرز من أي دور حصلت عليه إيران داخل المجتمع التربوي السوري. حتى أن الجانب الروسي يتعامل مع السوريين بشكل عملي ومجرّد، دون اللجوء إلى متطلّبات أخلاقية عقائدية، بل يحاول أن يحاكي ضروب القصور العلمي والميول والرغبات لدى الأفراد السوريين، سواء عبر تقديم المنح العلمية أو الوظائف التي تتطلّب تعلم اللغة الروسية، وتكريسها عبر جذب الأفراد وظيفيا. في مراكز تعليم اللغة الروسية تكبر الآمال للاستثمار، وبعضهم أشار إلى متطلبات وظيفية للغة الروسية حتى في دول الخليج.
البحث عن اللغات
جُلّ المكتبات التجارية في سوريا لا يزال يبيع كتب تعليم الإنكليزية والألمانية، ولم تستطع كلا الدولتين -إيران وروسيا- تحقيق جذب اجتماعي عمومي، وتحدث خيارات الصراع بين الثقافتين داخل المؤسسات الحكومية فقط للسيطرة على آليات التلقين التقليدية كالمدارس والجامعات. وقد جعلت الهيمنة الاجتماعية المفقودة للنظام على الواقع السياسي والاجتماعي مدار الصراع بين الثقافتين داخل المساحات الرسمية المتاحة لا أكثر. لكن لا يمكن المقارنة بين الثقافتين والاستجابة لهما سوريّا، فتقريبا لم يعد للوجود الإيراني أي انعكاس ثقافي بالمعنى الذي سبق تدخّل الروس، خاصة أن التدخل الروسي قلب موازين البلاد لمصلحة الحكومة السورية أثناء الحرب الدائرة فيها، مما رفع رصيدها لدى المجتمع السوري. ثم أن نموذج التبعيّة المطلوب أقل وطأة من النموذج الذي تكرّسه إيران، فسوريا اليوم كدولةٍ بالكاد تكون من الدول النامية، لا تشكّل في تبعيّتها لروسيا شيئا يُذكر، خلافا لإيران وخططها الاستراتيجية في المنطقة التي تكون فيها سوريا حجر زاوية. ثم أن السنين الأولى للتدخل الروسي والنجاحات العسكرية التي حقّقها، جعلت الانجذاب الى مشروعها في سوريا كبيرا، وخفّت جاذبيته اجتماعيا في السنين الأخيرة لتردّي أوضاع البلاد، والشعور الاجتماعي بأن الروس لم يدعموا المجتمع السوري إلا بقدرٍ محدود. وقد حملت السنون الأولى للتدخل بعدا مبالغا فيه بالاتكال على الروس، ومحاولة الانجذاب الى ثقافتهم للافادة من العلاقة مع الدول الكبرى، إلا أن هذا لم يحقّق نتائج ملموسة.
بعض المناطق التي تمركز فيها الروس والإيرانيون جعلت مشاريعهم أكثر التصاقا بالبيئة الاجتماعية وذات أثر، وفي الحالتين هناك بُعد مضاف، هو البعد الديني كشكل من أشكال الاحتواء الثقافي
ويطرح توافر المنح التعليمية وظروف العمل الممكنة داخل المشاريع الاقتصادية الروسية، جراء تعلّم اللغة، أولويّات ممكنة لدى الكثير من الشبان والشابات الذين لا يملكون مالا كافيا للدراسة في أوروبا. ووفقا لكثير من الطلاب الذين التقيناهم يبدو تعلم اللغة الروسية فرصة للحصول على منح دراسيّة، سواء عبر المنح الحكومية أو المعاهد والصلات مع الجامعات الروسية.
وخلافا للنزعة الإيرانية الكلاسيكية تبقى روسيا أقرب إلى السوريين اجتماعيا وثقافيا، وقد شكّل آلاف المتخرجين من الاتحاد السوفياتي بعدا حميما للوجود الروسي في المنطقة، ويقوم بعض المتخرجين السابقين بتدريس اللغة الروسية لطلاب الإعدادية، وفتح الكثير من المعاهد الخاصة صفوفا لتعليم اللغة الروسية، وهو ما لم تستطع ايران النجاح فيه أبدا، فلم يلجأ أي قطاع خاص الى الاهتمام باللغة الفارسية أو تعليمها، ولا حتى الحكومة السورية أضافت اللغة الفارسية إلى المنهاج التربوي الرسمي.
غياب المعايير
لا معيار حقيقيا للأثر الروسي والإيراني في سوريا، فالوجه الحقيقي للأثر لم يعد ظاهرا بشكل جلي في خضم اغتراب الثقافتين عن المجتمع السوري وعدم ثبات الانجذاب الاجتماعي لهما، والأهم عدم الاستفادة الوظيفية من كلا الثقافتين. إلا أن بعض المناطق التي تمركز فيها الروس والإيرانيون جعلت مشاريعهم أكثر التصاقا بالبيئة الاجتماعية وذات أثر، وفي الحالتين هناك بُعد مضاف، وهو البعد الديني كشكل من أشكال الاحتواء الثقافي للجماعات المقرّبة دينيا للدولتين، مما جعل كلا من الروس والإيرانيين منشئين لمجتمعات صغيرة في العاصمة أو المدن الأخرى، خاصة أن البعد المسيحي للثقافة الروسية جعل العديد من الكنائس والمجتمعات المسيحية على صلةٍ قوية بالروس، بالتالي بالمنح الجامعية أيضا والرعاية الاجتماعية والثقافية لكنها بقيت محدودة. إحساس السوري بالافادة من وجود الدولتين لم يعد واضحا أو مهما، والطبقتان الاجتماعيتان الوسطى والفقيرة، اللتان حاولتا الافادة من العلاقات مع الدولتين لإرسال أولادهما للدراسة في الخارج، تراجعت آمالهما في ظل عدم الاهتمام الجدي بتبني الطلاب وتأسيس مستقبل أفضل لهم، وضعف القدرات الاقتصادية للروس والإيرانيين نتيجة الظروف الدولية. لكن الرهان يظلّ على ثقافة التلقين والاحتواء، والدفع الحكومي السوري نحو الالتصاق بالتأثير الروسي أكثر من أي تأثير آخر. وفي الفترة الأخيرة تقوم الحكومة الروسية بتوسعة الطلب للخبرات التعليمية الروسية، لزيادة معاهد تعليم اللغة الروسية، وطلب خبرات من روسيا نفسها لزيادة النشاط التعليمي، ذلك من أجل مستقبل يأمل فيه النظام السوري باستغلال العلاقة الكبيرة مع الروس. أما الجانب الإيراني فيحرص على ألا يظهر في موقع المؤثّر الثقافي، بقدر ما يظهر كداعم للحكومة السورية. شكل التبعية الثقافية يميل نحو روسيا، لكن ليس بمقدار الاختيار الاجتماعي الذي يحرص على التوجه إلى أوروبا. الصراع الرمزي في سوريا يميل الى المصلحة الاجتماعية والفردية، وستكون الجاذبية الأوروبية هي المنتصرة دوما. يتم التخلي عن سوريا شيئا فشيئا، والجماعات والأفراد يختارون مصالحهم دون وعود الحلفاء التي لم تفلح، وثقافة الارتهان لما تريده السلطة أو الدول الداعمة لم تعد مجدية.