كيف قلبت "قبلة" إسبانيا رأسا على عقب؟https://www.majalla.com/node/298546/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%82%D9%84%D8%A8%D8%AA-%D9%82%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%B1%D8%A3%D8%B3%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B9%D9%82%D8%A8%D8%9F
يبدو نهائي كأس العالم للسيدات الذي فازت فيه إسبانيا على إنكلترا بنتيجة 1-0 ذكرى بعيدة، وذلك بسبب الصخب الهائل الذي أعقب الفوز.
لم أجد غير التنهّد لتعزية نفسي بعد خسارة منتخب بلادي. ثم جالت بخاطري فكرة مشوبة بشيء من الأسى، وهي أن ذلك اليوم كان يوم سعد على الحركة النسوية الإسبانية.
"آه، ليتني لم أتنبأ بهذا" (هاملت، الفصل الأول، المشهد الخامس) - فما كادت المباراة تنتهي حتى أطلّت علينا مسألة قضية المواقف المتحيّزة ضد المرأة، من قبل بعض الرجال الإسبان، برأسها القبيح.
وقد بدأت المشكلة مباشرة بعد صافرة النهاية، ولولا كانت عيناي مغرورقتين بالدموع، لتسنّت لي رؤية رئيس الاتحاد الإسباني الملكي لكرة القدم لويس روبياليس وهو يُقدم على تصرفه الذي أثار زوبعة ولا يزال. فعلى ما يبدو نسى، في خضمّ تأثّره بنشوة تلك اللحظة، أن عيون العالم (وأكثر من نصفها للنساء) كانت مسلّطة عليه.
شدّدت اللاعبة هيرموسو على أنها لم تستمتع بالقبلة، وقد أكّدت ذلك عندما أنكرت أن القبلة كانت بالتراضي.
وبغض النظر عن ترتيب الأحداث، فقد أمسك الرجل بعضوه التناسلي في حضرة ملكة إسبانيا، وحمل إحدى اللاعبات الإسبانيات فوق كتفه على طريقة رجال الإطفاء، والأسوأ من كل ذلك أنه طبع قبلة على فم اللاعبة جيني هيرموسو، مطبقا بيديه على رأسها، وجاذبا إياها نحوه، أو هكذا بدا الأمر.
بالقوة أم بالتراضي؟
قامت الدنيا ولم تقعد من ساعتها، واحتدم الجدل حول الأمر في إسبانيا وخارجها، حتى غطّى تماما على نجاح الفريق في الفوز بكأس العالم. في البداية، انبرى الاتحاد الإسباني لكرة القدم للدفاع عن روبياليس، وأصرّ على أن القبلة كانت بالتراضي. وقد وصفها روبياليس بأنها "مجرّد ملامسة بالشفاه".
وهنا، لا يهمنا الكلمات التي عبر بها أبطال الحادثة عما دار فيها، لا أتقن ما يكفي في اللغة الإسبانية لأراجع معجمها بحثا عن وصفها لهذا النوع من التفاعل الجسدي. ومع ذلك، فمن المؤكد أن العامية البريطانية كانت ستُسعف رئيس الاتحاد الإسباني. ولكن وبكل تجرّد، لم تكن تلك مجرد ملامسة بالشفاه، ولا حتى قبلة بسيطة. فمن حيث المدّة والحميمية، بمقدور أي طفل غرير أن يصف ما كان العالم بأسره شاهدا عليه، على أنه لثم للشفاه.
وإذا تغاضينا لبرهة عن لامبالاته اللحظية ببروتوكولات البلاط الملكي، فما كنا لنعترض بشكل خاص على أي من سلوكيات روبياليس المثيرة، لو أنه كلف نفسه عناء توضيح الأمر مع أعضاء الفريق مسبقا وحصل على موافقتهم. فالسبب وراء اعتبار ملامسة الشفاه/القبلة/لثم الشفاه كأكثر تصرف مثير للجدل لروبياليس، هو تشديد اللاعبة هيرموسو بعد ذلك على أنها لم تستمتع بها. وقد أكّدت ذلك عندما أنكرت أن القبلة كانت بالتراضي. وعلى العكس من ذلك، قالت إنها شعرت بأنها "ضحية للاعتداء عليها، أو لتصرّف متحيّز جنسيا".
هيرموسو تحمل روبياليس
حرص الاتحاد الإسباني لكرة القدم في البداية على دعم رئيسه ضد مثل هذه الاتهامات. واتهم اللاعبة بأنها نفت في البداية ارتكاب الرجل لأي مخالفة. وعندما أعلن الفريق بأكمله ومعظم المدربين الإضراب عن العمل طالما بقي روبياليس في منصبه، أطلق الاتحاد تهديدات غامضة باتخاذ إجراءات قانونية ضدهم، حتى وصل الأمر للادعاء بأن جيني هيرموسو هي التي حملت رئيس الاتحاد من على الأرض. فهل من الممكن أن يكون وراء هذه الأكذوبة اليائسة نيّة مجنونة مفادها الإشارة إلى أن اللاعبة لم تكلّف نفسها عناء الحصول على موافقة روبياليس؟ إلا أن مقطع فيديو نشر لاحقا للحادثة نفسها، بيّن أن روبياليس هو الذي تسلّق جسد هيرموسو، وأنها لم تبادر إلى حمله في تلك اللحظة.
بعد جلسة طارئة استمرّت ست ساعات توصّل الاتحاد الإسباني إلى قرار بالإجماع بإيقاف روبياليس مدة تسعين يوما، في انتظار التحقيق الذي يجريه مكتب المدعي العام
في الجمعية العمومية غير العادية التي انعقدت في 25 أغسطس/ آب، وعلى الرغم من الشائعات التي تردّدت بأن الرجل على وشك الاستقالة، وضع روبياليس حدا لهذه التكهنات، وأعلن في تحدّ سافر أنه لن يستقيل. ثم أضاف أنه بالتأكيد لن يستقيل، وأخيرا، ولتجنّب أي سوء فهم، أخبر المسؤولين والصحافيين بأنه لن يستقيل قطعا.
وتقديرا لهذا الأداء، الذي لم يتضمّن أيّ تلميح للاعتذار، تلقّى الرئيس المحاصر تصفيقا حارا من الحضور، على الرغم من أن النساء الحاضرات كن على ما يبدو أقل حماسة للانضمام إلى المصفقين. وفي وقت لاحق، برهن روبياليس على جهله بالحكمة القديمة القائلة "لا تزد الطين بلّة". إذ أخذ يكيل الاتهامات لخصومه متهما إياهم بـ "النسوية الزائفة".
الأخير في فصيلته
ولكن منذ ذلك الحين، وكما يظهر من ردّ فعل المجتمع الإسباني ككل، فإن روبياليس في طريقه لخسارة هذا السجال. وربما يكون الرجل ذكرا شوفينيا وحيدا عفا عليه الزمن، بل وهو أيضاالأخير من فصيلته. كان "الفيفا" أول من سدّد إليه اللكمات، معلنا أن استمراره في منصبه غير مقبول. ثم عكس الاتحاد الإسباني لكرة القدم نظرته إلى هذه المسألة، فبعد جلسة طارئة استمرّت ست ساعات خلال عطلة نهاية الأسبوع، توصّل إلى قرار بالإجماع بإيقاف روبياليس مدة تسعين يوما، في انتظار التحقيق الذي يجريه مكتب المدعي العام. وقد يترتّب على ذلك توجيه الإتهام إلى روبياليس بالتحرّش الجنسي، وهو ما يُعدّ جريمة جنائية.
في هذه الأثناء، خرج الجمهور إلى الشوارع للتعبير عن احتجاجه على سلوك رئيس الاتحاد، وقد شاركت الحكومة نفسها في الأمر، إذ قالت يولاندا دياز، نائب رئيس الوزراء الإسباني، للصحافة: "بلدنا نموذج يقتدى به في المساواة بين الجنسين، ولا يمتّ هذا السلوك بأيّ صلة للبلد الذي نمثله".
ومن الواضح أنه قد صار من المتعذر الدفاع عن موقف روبياليس. أما عائلته فتشكو من تعرضه لحملة اضطهاد متعمّدة، إذ قالت إحدى بنات خالاته، فانيسا رويز بيخار، للصحافيين إن"عائلته عانت كثيرا. لقد اضطررنا إلى هجر منازلنا، فالجميع لا يكفّ عن مضايقتنا، وهذا أمر غير عادل".
أما والدته، أنخيليس بيخار، فكانت أكبر مؤيديه. ونتيجة لاشمئزازها من المعاملة التي يلقاها أبنها، فقد فرضت على نفسها العزلة في كنيسة الرعاة القديسين في موتريل بجنوب إسبانيا وامتنعت عن الطعام حتى تضع السلطات حدا"للمعاملة غير الإنسانية والمطاردة الدموية ضد أبنها، فهو لا يستحق ذلك".
وتقول روزين لاناغان، في مقال لها بصحيفة "i"، والتي تتحدث من منطلق كونها تنحدر من عائلة كاثوليكية "إنها ترى في كلام السيدة أنخيليس، صورة الأم التي لا يمكن لابنها أن يرتكب أي خطأ. لقد جسّد مشهد الأم في الكنيسة العديد من الرموز الكاثوليكية - كالأم المكابدة، والأبن المثالي المساء فهمه، والإضراب عن الطعام كشكل من أشكال التقوى والاحتجاج".
أنا أيضا
وعلى الرغم من اختيار والدته العزلة، فسيكون من السذاجة وصف ذلك بأنه معركة بين إسبانيا الكاثوليكية القديمة وإسبانيا الحديثة مثلما تجسّدها أفلام المخرج بيدرو ألمودوفار. وحتى حزب "فوكس"اليميني، الذي يُثير الشكوك حول الحركة النسوية، معروف عنه أنه يعارض الهجرة من بلدان المغرب العربي على أساس أنهم أكثر ميلامن ذوي الأصول الإسبانية إلى معارضة حقوق المرأة.
اعتبرت الحكومة اليسارية هذه الفضيحة برمّتها لحظة فارقة في تاريخ كرة القدم الإسبانية، على غرار ظهور حركة "أنا أيضا"
وفي الوقت نفسه، اعتبرت الحكومة اليسارية هذه الفضيحة برمّتها لحظة فارقة في تاريخ كرة القدم الإسبانية، على غرار ظهور حركة "أنا أيضا". لكن الفضل يعود لإحدى لاعبات كأس العالم والقائدة السابقة للمنتخب الوطني، أليكسيا بوتيلاس، في وضع وسم خاص لهذه الحركة المحلية، حيث غردت قائلة "انتهى، طفح الكيل".
كما ظهر رسم كاريكاتوري يُصور فتاة صغيرة تحمل كرة القدم وتتحدّث مع جدتها. "جدتي: أخبريني كيف فزت بكأس العالم". تجيب السيدة العجوز: "لم نفز بكأس العالم فحسب، يا صغيرتي، لقد فزنا بأكثر من ذلك بكثير."
إن النظر إلى الفوز بكأس العالم باعتباره يوماحميدا أو مذموما بالنسبة إلى الحركة النسوية في إسبانيا يتوقّف على ما سيحدثه من تغيرات بعيدة المدى، ليس في اللعبة فحسب، بل أيضا في مواقف الرجال والنساء على حد سواء في المجتمع الأعم.
ليس من السهل التنبؤ بما تحمله الأقدار، ولكن عندما يتعلّق الأمر بتبرئة ابنها، فقد تضطر السيدة بيخار إلى الانتظار طويلا.