يحتفل عالم الفلسفة في هذه الأيام بيوم مولد غورغ فيلهلم فريدريك هيغل (27 أغسطس/آب 1770) ولا أظن أنه قد جرى في تاريخ الفكر خلاف في تقييم مفكر مشهور مثلما وقع لهذا الرجل، فهناك من يعتبره "الفيلسوف" بأل التعريف، وهناك من لا يرى له قدرا سوى أنه قد هدم الفلسفة، وهناك من يزعم أن فلسفته مسيحية مقنّعة، ومن الأساتذة المعاصرين من يرى أنه كان هرمسيا متخفيا، وهناك من يراه ملحدا عتيدا، وإن كان لا يقول أي شيء من هذا. لقد رسم لنا نسق الأنساق الذي تحدث فيه عن كل شيء، بأسلوب يحتوي كل المختلفين. هذا الاختلاف على التقييم ينبغي ألا يؤثر على قضية الاعتراف بالأثرالعميق لهذا المفكر العظيم. فعلى كتفي هيغل، قامت الوجودية الحديثة، وجودية سورين كيركيغارد، والماركسية، وفلسفة فويرباخ قبلها، واشتهرت عن ميشال فوكو عبارته "لا نزال نحاول أن نتحرّر من قبضة هيغل".
عند هيغل، منطق العقل هو الذي يحق له أن يصف العالم بعيدا من معطيات الحواس والإدراك الذي ينتج منها، فعندما ننظر في ظاهر العالم كما تكشف عنه حواسنا هو في الحقيقة في قمة التناقض، وهذا لا يعني إلا شيئا واحدا، هذا العالم كما يبدو لنا ليس سوى وهم من الأوهام. هناك عالم حقيقي متسق اتساقا منطقيا مع ذاته، لكنه ليس هذا الظاهر. هذا العالم غير الظاهري لن يُسقط حجابه إلا العقل، وفي طبيعة الحال سيصفه بصفات غير التي عند الحواس ومعطياتها. إنه عالم لا يستطيع أن يحدّه زمان ولا مكان، عالم لا يمكن أن يكون نسيجه من هذه الأشياء التي تحيط بنا وترتبط في ما بينها بعلاقات، عالم يتسامى عن هذه الثنائية التي اصطنعناها للذات والموضوع، عالم يتكوّن من حقيقة واحدة مطلقة لا انقسامات فيها ولا حدود.
فلسفة هيغل شائكة جدا، وقد اختلف الشارحون في تحديد التفسير الصحيح لها، لكن يبدو أن قضيته الرئيسة هي أن كل شيء شظية مقتطعة من الكل، ومن الواضح أنه غير قادر على الوجود دون تكملته من قبل بقية العالم
فلسفة هيغل شائكة جدا، وقد اختلف الشارحون في تحديد التفسير الصحيح لها، لكن يبدو أن قضيته الرئيسة هي أن كل شيء، غير الكل، هو شظية مقتطعة من الكل، ومن الواضح أنها غير قادرة على الوجود دون تكملتها من قبل بقية العالم. وكما في علم التشريح المقارن، تستطيع من عَظم واحد، أن تعرف أي نوع من الحيوانات كان يشكله الكل الذي ينتمي إليه ذلك العَظم. وكذلك الميتافيزيقي يستطيع أن يرى كل الحقيقة إذا رأى جزءا منها، على الأقل في خطوطها العريضة. كل ما يظهر كجزء معزول عن الحقيقة، لديه رباط يوثقه بجزء آخر من الحقيقة، والجزء الآخر لديه رباط آخر جديد، حتى يعيد هيغل بناء كل الكون من جديد. هذا السعي نحو الكمال يظهر في الدرجة نفسها في عالم الفكر وعالم الأشياء. في عالم الفكر، عندما نأخذ أي فكرة مجردة أو غير مكتملة، نجد عند الفحص، أننا إذا نسينا عدم اكتمالها نقع في التناقض، وهذا التناقض يحوّل الفكرة إلى نقيضها، ولكي نهرب من هذا التناقض، لا بد أن نجد فكرة تكون أقرب إلى الاكتمال، وهي التي يسميها: المركب، مركب من فكرتنا الأساسية ومن نقيضها. هذه الفكرة الجديدة عدم الاكتمال فيها أقلّ من الفكرة التي بدأنا بها، لكنها هي بدورها غير كاملة، وستنتج منها فكرة نقيضة لها، ومن الاثنتين يتكون مركّبهما.
وهكذا يتقدّم هيغل، حتى يصل إلى الفكرة الشاملة، التي لا يكون في كمالها نقص ولا يكون لها نقيضة ولا تحتاج إلى مزيد من التطور. الفكرة الشاملة كافية لوصف الحقيقة المطلقة. أما الأفكار الأقل فتصف الحقيقة مثلما تظهر في رأي جزئي ناقص، وليست كمن يقوم بمسح شامل للكل، في الوقت ذاته. بهذه الطريقة يتقدّم هيغل حتى يصل الى نتيجته وهي "الفكرة المطلقة" التي تُشكل نظاما واحدا متناغما، ليس في المكان ولا الزمان، ليس بأي درجة شرير، عقلاني بالكامل، وروحاني بالكامل. وأي ظهور للتناقض في العالم الذي نعرفه، فإن هيغل يمكنه أن يثبت منطقيا كما يعتقد، أن السبب الكلي للتناقض، هو نظرتنا التجزيئية للكون. ولو أننا رأينا الكون كما نفترض أن الله يراه، فإن المكان والزمان والمادة والشر وكل المتاعب سوف تختفي، وسوف نرى بدلا من ذلك، وحدة روحية ثابتة كاملة خالدة.
لو كان لي أن أصفه بجملة لقلت إنه ذلك المفكر الذي أراد لتجربة الوعي الصوفي أن تقوم على أساسات من العقل، أو يمكن أن نقول إنه الفيلسوف الذي عقلن التصوف
هذا يبدو للسامع كأنه من أحاديث الصوفية، وهذا الخاطر لا يخلو من الصحة، فقد كتب في شبابه قصيدة أهداها إلى صديقه الشاعر الشهير هولدرلن، عنوانها "إلفسينا"Eleusis كتبها لتمجيد المطلق الفاتن الذي لم يغب عنه قط، ولم تكن قصيدته تخلو من الوجد الصوفي.
لكن كيف لنا أن نقول هذا ونحن نعلم أن هيغل يرفض الحدس الصوفي كطريق موصل إلى الحقيقة، مثلما يرفض الرياضيات والعلوم، إذ لا شيء سوى العقل الفلسفي قائد. ولا منهج إلا منهج صراع الأفكار والقبول بالتناقض، فكل فكرة ستلد نقيضها وستصطرعان، ومن صراعهما سيكون مركب جديد يحوي أفضل ما فيهما، وكل تاريخ الفلسفة صراع أفكار، ينتج منه مركب أفضل، وكل فيلسوف في التاريخ أدلى بفكرة يخضع لهذا الجدال، أي أن كل واحد منهم كان مصيبا في لحظة ما، ثم تجاوزته الأفكار المركبة. إنه يقبل الجميع على أساس أنهم كانوا ضرورة، لكنهم ليسوا كاملين لأنهم كانوا يمثلون فقط لحظة قاصرة في الوعي.
في المحصلة النهائية كان هيغل رجلا عقلانيا لا يتبع إلا أحكام عقله الدقيق، ولم يكن يسأم وهو يحوّل مشاعره وأحاسيسه إلى صور فكرية وعقلية. ولو كان لي أن أصفه بجملة لقلت إنه ذلك المفكر الذي أراد لتجربة الوعي الصوفي أن تقوم على أساسات من العقل، أو يمكن أن نقول إنه الفيلسوف الذي عقلن التصوف.