كلّ ما تريد معرفته عن "جنود الربّ" في لبنان

بين "حزب الله" اللبناني و"جيش الربّ" الأوغندي

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

كلّ ما تريد معرفته عن "جنود الربّ" في لبنان

بيروت: في 23 أغسطس/آب، تعرّض مقهى "مدام أوم" في محلة مار مخايل، شرق العاصمة اللبنانية بيروت، الى هجوم شنّته مجموعة شبان تنتمي إلى تنظيم يطلق على نفسه اسم "جنود الرب"، وذلك على خلفية عرض مسرحي تحت عنوان "دراغ شو" كان يقدّم في الليلة نفسها.

انتشرت مقاطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي تظهر ما فعلته مجموعة "جنود الرب"، حيث أظهرت قيام بعض مفتولي العضلات بتحطيم محتويات المقهى بذريعة أنه يروّج لـ"المثلية الجنسية"، وفق ما ورد على لسان أحد أفراد هذه المجموعة في أحد الفيديوهات التي انتشرت بكثافة على شبكات التواصل الاجتماعي.

بيد أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها التي تقوم بها مجموعة تابعة لهذا التنظيم الذي يعبّر اسمه عن مدى تطرّفه، إذ سبقتها في السنوات الفائتة حوادث مشابهة لا تقل عنفا، وهي التي أدّت الى ذيوع شهرته. فما هو هذا التنظيم؟ وكيف تأسّس؟ وأين ينتشر؟ ومن يموّله؟ وهل يشكل خطرا على المجتمع اللبناني؟

لا يُعرف تاريخ تأسيس محدّد لهذه الجماعة، لكنها بدأت تبرز بعض الشيء في الميدان المحلي إبان الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر/تشرين الأول، وإن اقتصر نشاطها على حماية عدد من المصارف من محاولات الاقتحام التي شاعت في لبنان.

يفيد بعض التقارير الإعلامية بأن تأسيس الجماعة كان في أكتوبر/تشرين الأول 2019 في محلة "كرم الزيتون" في منطقة الأشرفية، ذات الغالبية السكانية المسيحية شرق بيروت، على يد شخص يدعى جوزيف منصور، الذي يتولى قيادة المجموعة حتى اليوم.

وتشير تقارير أمنية وإعلامية إلى أن نواة هذا التنظيم تشكلت من مساجين سابقين، عملوا حراسا لمصارف. كما تشير إلى أن عديد هذه المجموعة حتى أواخر عام 2022 لا يتجاوز الـ300 شخص من مفتولي العضلات، الذين يتميزون بكثافة الأوشام الصارخة على أجسادهم. الأمر الذي يعيد تذكيرنا بكيفية تأسيس فرق "الشبّيحة" في سوريا، و"فاغنر" الروسية.

تعرّف الجماعة عن نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها "ليست حزبا ولا منظمة، ولا تتبع لأي شخصية، ولا صلة لها بأي شيء أرضي، وليس لها أي نشاط أمني او مدني". كما تدّعي بأنها "تحمل تعاليم يسوع، ومؤتمنة على وصاياه"

يرتدي عناصر التنظيم لباسا أسود بالكامل، ويرسمون على قمصانهم صليبا ذا أجنحة، وهو شعارهم الرسمي. لم يظهروا في الشوارع والساحات والأماكن العامة حاملين السلاح، ويستخدمون أذرعهم وكثرتهم العددية في الاشتباكات، وأحيانا العصيّ. يرفضون بإصرار نعتهم بـ"الميليشيا" ويصرون على كونهم جماعة دعوية، علاوة على تجنّبهم الظهور الإعلامي إلا في ما ندر.

تعرّف الجماعة عن نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها "ليست حزبا ولا منظمة، ولا تتبع لأي شخصية، ولا صلة لها بأي شيء أرضي، وليس لها أي نشاط أمني او مدني". كما تدّعي بأنها "تحمل تعاليم يسوع، ومؤتمنة على وصاياه".

مع ذلك فإن أفراد هذا التنظيم، يشبهون بقمصانهم وطريقة تنظيمهم بدايات صعود الميليشيات النازية والفاشية في أوروبا في ثلاثينات القرن الماضي. تلك التنظيمات وصل تأثيرها الى لبنان وأنتجت "حزب الكتائب اللبنانية" الذي بدأ رحلته أيضا كتنظيم شبابي يدعم الدولة والنظام الذي كان تحت سيطرة ما يعرف بـ"المارونية السياسية" حينها، ويشتبك مع خصومه ومعارضيه بالعصي والحجارة.

ثم تحولت الكتائب في ما بعد إلى أبرز ميليشيا مسيحية ساهمت مع أقرانها من الميليشيات العلمانية والطائفية والمذهبية الأخرى في تدمير لبنان أيام الحرب الأهلية المريرة (1975 – 1990). وتشير بعض المعلومات إلى اختراق استخبارات الجيش اللبناني هذا التنظيم في الدرجة الأولى، والأجهزة الاستخباراتية الأخرى، وكذلك أيضا جهاز أمن "حزب الله".

 

البلطجة تقود الى الشهرة

أول ظهور علني لتنظيم "جنود الرب" كان أواخر عام 2019 خلال الاعتراضات الشعبية والكنسية على تنظيم حفل لفرقة تدعى "مشروع ليلى" في حيّ الجميزة ذي الهوية المسيحية بالأشرفية، واتهام الفرقة بالترويج للشذوذ الجنسي. حينذاك انتشرت فيديوهات تظهر مجموعة كبيرة من أفراد التنظيم بسيوف وصلبان مسنّنة، ولباس أسود موحد، وعلى وقع التراتيل الدينية والصلوات، يهدّدون المروجين للمثلية الجنسية ويتوعّدون بمنع أنشطتهم ورفع شعاراتهم في الأشرفية أو "أرض الرب" حسب تعبيرهم.

أعقب ذلك ورود اسم التنظيم في صحائف التحقيقات الرسمية حول الاشتباكات المذهبية بين الشيعة والمسيحيين التي حصلت يوم التظاهرة الشهيرة التي قام بها أنصار "حزب الله" وحركة "أمل" ضد المحقّق العدلي في جريمة انفجار ميناء بيروت، والتي تعرف بـ"أحداث الطيونة" في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأدّت الى مقتل 7 من مناصري "حزب الله".

بيّنت التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية اللبنانية أن أفرادا من هذا التنظيم قاموا في الليلة السابقة للاشتباكات بكتابة شعارات دينية ورسم ونصب صلبان في عدد من الأحياء ذات الطابع المسيحي.

عادت وبرزت المجموعة أيضا بتصدّيها العنيف للجماهير المسلمة التي كانت تحتفل بفوز المنتخب المغربي على البرتغال في ربع نهائي كأس العالم، وتأهّلها الى الدور النصف نهائي، والذي تزامن مع احتفالات المسيحيين بعيد الميلاد، الأمر الذي أدّى الى حصول إشكال مذهبي تخلله عراك كبير وفتنة مذهبية كادت أن تقع في بلد التوازنات الطائفية والمذهبية الهشة.

تردّد اسم المجموعة مجددا في اعتداء آخر طاول عملا فنيا معروضا في ساحة ساسين الشهيرة بالأشرفية في أكتوبر/تشرين الأول 2021، يهدف إلى دعم مرضى سرطان الثدي، حيث جرى تحطيم مجسّمات عرض ملابس للفنانة ميرنا معلوف لكون بعضها يحمل ألوان قوس قزح، واتهم المعرض بـ"الترويج للعري والمثلية" وتعرّض للتحطيم أيضا. وقام عدد من أفراد التنظيم بتحطيم إعلان من الزهور المنسّقة الملونة الذي يروج للمثليين في الأشرفية في يونيو/حزيران 2022. انتهاء بالحادثة التي أشرنا اليها آنفا.

علاوة على ذلك، ثمة تقارير إعلامية وكلام يدور في أروقة الصالونات السياسية في لبنان عن مهمات أمن ذاتي وحراسة يقوم بها أفراد من التنظيم في نطاق منطقة الأشرفية، حيث تُظهر بعض مقاطع الفيديو المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي أفراداً من التنظيم في دوريات يسيّرونها ليلا، في محاولة لتقديم أنفسهم كمدافعين عن المنطقة المسيحية الهوية في وجه المجرمين وكذلك "الغرباء". وهو مصطلح قديم كان يطلق على اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان بعد النكبة، وصار يستخدم اليوم ضد اللاجئين السوريين. وهذا ما يمنحهم قبولا شعبيا متناميا بالنظر الى الواقع الأمني المتهالك في لبنان، وحملات التحريض الممنهجة والمتتالية ضد اللاجئين.

 

"نحن أبناء الرب... ومحاربو الشيطان"

في مقابلة نادرة لمؤسس وقائد التنظيم جوزيف منصور مع موقع "الحرّة"، يعرّف تنظيم "جنود الرب" بأنهم "أبناء الرب يسوع، أولاد الكنيسة، فكل شخص معمّد باسم الأب والابن والروح القدس هو تلميذ الرب يسوع حسب الكتاب المقدس". ويؤكد أن كل كلمة ينطقون بها مصدرها الكتاب المقدس.

ويوغل منصور في المصطلحات والتعابير المقدّسة التي يعزو إليها كل شيء، من تأسيس التنظيم واسمه المستوحى من الإنجيل، إلى نشاط عمله وسلوكيات أفراده. ويشتكي من أن لا أحد ممن تحدث عنهم أو راجعهم أبدى اهتماما "بالروحانيات التي تسير عملنا، الاهتمام ينحصر بالسياسة والأمور الشخصية ولا يركّز على المشهد الأكبر". وينفي منصور أي ارتباطات سياسية أو تبعية لأي شخص، ويسخر من كل الاتهامات التي تنطلق ضد تنظيمهم ويعدّها "شيطانية" تهدف الى "الوقوف بوجه رفع اسم الرب".

 يرتدي عناصر التنظيم لباسا أسود بالكامل، ويرسمون على قمصانهم صليبا ذا أجنحة، وهو شعارهم الرسمي. لم يظهروا في الشوارع والساحات والأماكن العامة حاملين السلاح، ويستخدمون أذرعهم وكثرتهم العددية في الاشتباكات


ويضيف منصور "نحن كجنود للرب رأينا ما حصل للغرب حين منعت سلطة الكهنوت، فشرعوا في الزنى والزواج المدني والإجهاض وأوقفت العمادة، وانعدم الرابط بين أبناء الكنيسة والكهنوت، وهذه هي حربنا الروحية الأولى اليوم، لذلك يضطهدوننا" قاصدا بذلك الاتهامات التي تساق في حقهم في الوقت الذي يشنّون فيه حربا على المثلية الجنسية.

"نحن لا نفرض شيئا، من يريد أن يزني فهو حر، لكن نحن نقول لا يمكنكم أن تدخلوا هذه السموم إلى عقول الأطفال والمجتمع بأساليب إبليسية تحت شعار حقوق الإنسان، وهذه تعاليم كنسية وليست من عندياتنا"، يختم منصور مع اتهام من يروج لهذه الأفكار بوضع الأطفال "في يد الشيطان مباشرة".

 

الدعم المالي

مطلع ديسمبر/كانون الأول 2022، أطلقت جمعية "أشرفية 2020" مبادرة "مراقبة الحي" التي تضم نحو 120 شابا يعملون كـ"ملائكة حراس" لسكان المنطقة بهدف حمايتهم من أعمال السرقة التي ازدادت وتيرتها بفعل الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي يتعرّض لها لبنان. تعاقدت الجمعية مع شركة أمنية متخصّصة ضمّت إليها هؤلاء الشبان، على أن يكون الحراس من دون سلاح، ومهمتهم المراقبة والتنسيق مع الأجهزة الأمنية المعنية.

بيد أن هذه المبادرة بالذات، كانت النافذة التي ولج من خلالها تنظيم "جنود الرب" إلى قلب المنطقة المسيحية، حيث عمل بعض أفرادها حراسا في الشركة الأمنية. مدير "أشرفية 2020" قال في تصريحات صحافية إن "راتب كل شاب هو 200 دولار"، وإن الموازنة السنوية تبلغ 300 ألف دولار كرواتب فقط، من دون احتساب باقي التكاليف اللوجستية. كل ذلك أثار الكثير من علامات الاستفهام حول تمويل المبادرة، وأيضا تمويل تنظيم "جنود الرب" بأفراده البالغ عددهم 500.

REUTERS
خلال اختباء رواد المقهى الذي تعرض لهجوم من قبل جنود الرب، في بيروت، لبنان، 23 أغسطس/آب 2023.

وعلى الرغم من غموض مصادر التمويل، في ظل الحديث عن تمويل ذاتي من تجار ورجال أعمال، إلا أن المعلومات التي انتشرت على نطاق واسع تشير إلى أن الجزء الأكبر من التمويل يقع على عاتق أنطون صحناوي، وهو رئيس مجلس إدارة مصرف "سوسيتيه جنرال"، ورجل أعمال لديه العديد من الأنشطة التجارية، ووارث عائلة ثرية، اشتهر بإحاطة نفسه بالقبضايات والفتوات. ثمة ارتباط واضح بين صحناوي ومجموعة "جنود الرب" من خلال توظيف العدد الأكبر من أفراد التنظيم عناصر أمنية في الشركات التابعة لصحناوي.

ومع أن صحناوي ليس نائبا أو وزيرا، إلا أنه في صلب المعادلة السياسية، إذ يتدخل في تركيب اللوائح الانتخابية، ويفرض نوابا، ويدعم بالمال والنفوذ نوابا آخرين ووسائل إعلام بارزة. وتشير بعض المعلومات إلى أنه متأثّر بموجة اليمين الصاعدة بقوة في الغرب في السنوات الأخيرة.

مع أن صحناوي ليس نائبا أو وزيرا، إلا أنه في صلب المعادلة السياسية، إذ يتدخل في تركيب اللوائح الانتخابية، ويفرض نوابا، وتشير بعض المعلومات إلى أنه متأثّر بموجة اليمين الصاعدة بقوة في الغرب في السنوات الأخيرة


هذا الأمر ليس قاصرا عليه إنما ورثه من والده الثري نبيل صحناوي. فضلا عن ثرائها، يعرف عن العائلة المنتمية الى الطائفة الكاثوليكية التزامها الديني الشديد. مطلع الحرب الأهلية لعب نبيل، الأب، دورا بارزا في إنشاء وتمويل ميليشيا القوات اللبنانية، الذراع العسكرية لحزب الكتائب اللبنانية اليميني المسيحي. تزعّم الذراع العسكرية الشاب بشير الجميل، ومن خلالها فرض نفسه زعيما مسيحيا، ومن ثم رئيسا للجمهورية لم يتح له تسلم منصبه بعد أن اغتيل بعبوة ناسفة.

ويدور الزمان دورته، ويكرّر الابن أنطون ما فعله والده، لكن تنظيم "جنود الرب" لا يزال طري العود، إنما لديه الأفكار نفسها التي حملتها "القوات" التي تحوّلت إلى حزب سياسي، واليوم لديها أكبر كتلة برلمانية. ثمة الكثير من أفراد التنظيم ممن هم أعضاء سابقون في "القوات"، كما أن التنظيم يتغنّى في فيديوهاته بالمعارك الأخيرة إبان الحرب.

تشير إحدى الروايات التي جرى تسويقها إعلاميا حول تمويل التنظيم، إلى أن نبيل، الوالد، حاول دعم فئة من الشباب الذين يعانون من البطالة، وسعى لإخراجهم من الفقر والتهميش والآفات التي تحيق بالمجتمع. فجمع الشبان، وجرى تأهيلهم صحيا، ومتابعة الأمور القضائية (الأحكام والتوقيفات) التي كان بعضهم عرضة لها، من طريق فريق محامين متخصّص.

في المرحلة الثانية أراد صحناوي من خلال انتمائه الديني والتزامه الكنسي تأهيل الشبان روحيا، فكانت مجموعة من الجلسات التثقيفية الدينية التي ساهمت في "هدايتهم"، وتخليصهم من السوداوية التي تظلّل حياتهم. هذا الانتقال من "الضلال" إلى "الهداية"، حسب الرواية، يفسّر ردود أفعال هؤلاء الشبان. ذلك أن الانتقال السريع جعلهم يتعاطون مع الأمور الدينية بطريقة غير تقليدية.

 

على درب التنظيمات المسيحية المقدّسة

"جنود الرب" ليس أوّل تنظيم يحمل مثل هذا الاسم، وعلى الرغم من أن كثرا في لبنان يشبّهونه بـ"حزب الله"، وهو تشبيه فيه الكثير من الوجاهة، إلا أن الاسم اقترن بتنظيم آخر وهو "جيش الرب". والأخير منظمة إرهابية مسيحية شديدة التطرف، نشأت عام 1987 في أوغندا، وحاربت الحكومة. وقائدها متعصّب يزعم أنه وسيط روحي، وكان يسعى إلى نظام ثيوقراطي قائم على المسيحية والكتاب المقدس. وفي سبيل ذلك ارتكب جرائم وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي ولحقوق الإنسان. تتهمه الأمم المتحدة بقتل ما يزيد على 100 ألف شخص، واختطاف أكثر من 60 ألف طفل خلال 30 عاما، وتجنديهم أو استخدامهم كـ"رقيق جنس".

بيد أن النسخة اللبنانية من "جنود الرب" هي أكثر تأثرا بالأساطير التي حيكت حول تنظيم مسيحي تاريخي هو "فرسان الهيكل". والأخير ولد إبان الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، بهدف حماية قوافل الحجاج المسيحيين الى القدس.

تأسس عام 1096، واعترف به البابا هونوريوس الثاني عام 1129، فكان نقطة تحول كبيرة في تاريخ "فرسان الهيكل"، إذ حصلوا بموجب هذا الاعتراف على الكثير من الامتيازات المالية، والإعفاءات الضريبية. كانت خسارته في "فتح عكا" عام 1291 المسمار الأخير في نعشه، حيث تراجعت شهرته، وأصدر البابا قرارا بحلّه عام 1312 بموجب مرسوم "لا رجعة فيه وساري المفعول الى الأبد". لكن وهج الأساطير التي حيكت حوله لا يزال يتفاعل إلى يومنا هذا. إذ تشير المعلومات إلى استمراره كقوة اقتصادية هائلة وسرية، وينظر الى تنظيم "فرسان مالطا" الغامض على أنه امتداد له.

صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر عناصر من حركة "جنود الرب"

من جانب آخر، فإن السردية التي يتبناها تنظيم "جنود الرب" تلائم تماما "حزب الله" الذي عمد عبر وسائل الإعلام الدائرة في فلكه الى تعظيم حضور التنظيم المسيحي الجديد، والتحذير من خطر هذه الميليشيا الناشئة، تماما مثلما عمل سابقا على تعظيم دور التنظيمات السنّية المتطرفة مثل "داعش" وغيرها، وذلك من أجل تبرير إبقاء سلاحه، وشدّ العصب الديني والطائفي لجمهوره.

إحدى السرديات التي تحدّث عنها أكثر من نائب وسياسي مقرّب من "حزب الله" أو حليف له، هي فكرة مؤامرة إمبريالية أميركية (كالعادة)، تعمل على تكديس الأسلحة في الكنائس والأديرة، وذلك بقصد تلطيخ سمعة المسيحيين بعدما تحوّل الصراع السياسي في لبنان من سني – شيعي، الى مسيحي – شيعي في الآونة الأخيرة، وإعادة تذكير جمهوره بأفعال كانت تتم سابقا خلال الحرب الأهلية.

 

الشارع المسيحي بين داعم ورافض

أثارت ظاهرة تنظيم "جنود الرب" وحضوره العنفي في الشارع نقاشا مسيحيا عميقا، أدّى إلى انقسام الشارع المسيحي بين فئة مؤيّدة وداعمة، وفئة شاجبة ومستنكرة، وإن كانت الثانية تبدو أكبر، إلا أن الفئة الأولى لا تقلّ شأنا وتأثيرا.

حسب العديد من النخب المسيحية فإن "جنود الرب" عبارة عن مجموعة محدودة ليس لديها تأثير كبير في الشارع المسيحي، لكن ضجيجها كبير بسبب سلوكيات عناصرها المافيوية الطابع. يقول الصحافي المسيحي المخضرم إيلي الحاج في تصريحات له إن الخلفية الفكرية والعقائدية للتنظيم "ضحلة وسخيفة، وهم ليسوا جماعة مسلحة، إنما يستعرضون عضلاتهم المفتولة وجثثهم الضخمة لإخافة الناس". ويبيّن الحاج أن التنظيم ينتقي من الإنجيل المسيحي "الآيات القابلة للتأويل بمنطق متطرف على غرار ما يفعل تنظيم داعش مع النصوص القرآنية لتبرير أعماله الدموية".

في حين يرى رئيس "المركز اللبناني لحقوق الإنسان" وديع الأسمر أن "جنود الرب" هي "مجموعة من الزعران يتمتعون بغطاء سياسي لممارسة أعمال البلطجة، وقريبا قد يفرضون خوات على الناس (أتاوات)". ويعتبر أن هذه الظاهرة قائمة على شقّين، "الشق الطائفي التبشيري المعقد، والشق الثاني يتعلق باللعب على الوتر الطائفي الغريزي للإيحاء بأنه كما يوجد حزب الله عند الشيعة، هناك جنود الرب لدى المسيحيين، وكلتا المقاربتان خاطئتان".

آخر إرهاصات هذه الظاهرة حصلت منذ أيام قليلة، وتتمثّل في إنشاء تنظيم "جنود الفيحاء" في مدينة طرابلس التي تعتبر عاصمة السنّة في لبنان


ويؤكد الأسمر أنه "لو لم يكن هناك تمويل لهذه الظاهرة لما استمرّت وتوسّعت، علاوة على أنه لا يمكن لمجموعة مثل جنود الرب أن تنشط في منطقة الأشرفية علنا بهذا الشكل حيث الأحزاب المسيحية تتنافس على الاستقطاب في ما بينها لو لم يكن هناك غطاء سياسي لها".

مما يدلّ على أن هذه الظاهرة تثير انقساما في الشارع المسيحي هو أن النائب عن حزب الكتائب نديم الجميل، نجل الرئيس بشير الجميل مؤسس "القوات اللبنانية"، وهو نائب عن منطقة الأشرفية بالتحديد، كان من أوائل من استنكروا وأدانوا الفعل الأخير لـ"جنود الرب" المتمثّل في تحطيم المقهى وضرب عدد من الذين كانوا داخله، لكنه في المقابل مؤسس جمعية "أشرفية 2020" وراعيها، وهي التي كانت النافذة التي أطلّ التنظيم من خلالها وسط قبول سياسي واجتماعي مسيحي، وغضّ بصر رسمي تحت ضغط الأحزاب المسيحية.

كذلك دافع العديد من رواد شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة من الفئات الشبابية عن التنظيم وما يقوم به، بما يعكس وجود حاضنة شعبية له، لكنها لا تزال محدودة بعض الشيء، على الأقل حتى اليوم، فضلا عن صمت الكنيسة المارونية عن كل ما يجري، وسط الحديث عن وجود مطارنة داعمين لهذه الظاهرة.

 

مشروع الفيديرالية

في المقابل، يتزامن ظهور هذا التنظيم المسيحي المتشدّد مع بروز فكرة الفيديرالية بقوة في الأوساط المسيحية، وتبنيها بشكل أو بآخر من قبل النخب والأحزاب المسيحية، وكذلك كبريات الجامعات المسيحية العريقة التي قامت بدراسات تؤكّد مدى أهمية هذا الطرح لمستقبل المسيحيين وعرضتها على الرأي العام لتكوين جبهة ضغط من أجل انتزاع موافقة باقي ألوان الطيف المذهبي والطائفي اللبناني.

"جنود الرب" مثل أي مجموعة حزبية تبدأ أولا بالمواضيع والأفكار الثقافية والاجتماعية، ثم تنتقل بعدها الى السلاح والخطاب السياسي الواضح والمتطرف، وتستفيد في ذلك من الوضع المتردّي في لبنان من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الذي يتيح المجال لمثل هذه الظواهر.

بيد أن ذلك لا يلغي أن فكرة "جنود الرب" تعكس مدى الرثاثة الفكرية والأخلاقية، وارتفاع موجة ظهور التنظيمات المتطرفة عند جميع الطوائف والمذاهب، سواء في لبنان أو في الدول المجاورة، وذلك نابع من الخواء الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

وليس تفصيلا أن يلتقي "حزب الله" مع تنظيم "جنود الرب"، مع أنه خصم أيديولوجي ومذهبي له، على فكرة محاربة المثليين. ذلك أن التنظيمات الدينية المتطرّفة على اختلاف مذاهبها تلتقي على عناوين متطرفة اجتماعيا، وتتفرّق أيديولوجيا. والقاسم المشترك في ما بينها أنها تحتكر النطق باسم الله من دون تكليف من أحد، وتمنح نفسها سلطات "فوق بشرية" وتستند الى تأويلات خاصة ومبتسرة للكتب المقدسة، ودعم ثلة من رجال الدين، من أجل تسلق الهرم الاجتماعي ومن ثم السياسي، وحينها تصبح بلاء يصعب الخلاص منه، والتاريخ حافل بالعديد من النماذج المشابهة والأمثلة.

صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر عناصر من حركة "جنود الرب"

يضاف إلى ذلك تحوّلها إلى ما يشبه الفيروس أو العدوى التي تسري في جسد المجتمعات وتنهكها. أوضح دلالة على ذلك تتمثل في ظهور تنظيم مسيحي متطرف آخر هو "جنود السيدة" إلى العلن في مارس/آذار 2023، على خلفية قيام أفراد منه بمهمة الأمن الذاتي في بعض مناطق الأكثرية السكانية المسيحية خارج بيروت.

آخر إرهاصات هذه الظاهرة حصلت منذ أيام قليلة، وتتمثّل في إنشاء تنظيم "جنود الفيحاء" في مدينة طرابلس التي تعتبر عاصمة السنّة في لبنان. صحيح أن التنظيم تعرّض لسخرية واسعة على شبكات التواصل، وأن مؤسسه ليس لديه حضور يذكر، وبالكاد وصل إلى مئة صوت في الانتخابات النيابية الأخيرة، لكنه يشكل صيدا ثمينا لأي طرف سياسي يرغب في استثماره لإشعال الساحة السنية، أو لشن حملة إعلامية على مدينة ألبست ثوب الإرهاب وأجريت على دماء وحياة أبنائها عشرات الصفقات السياسية بين أطراف السلطة في لبنان والدول الغربية ذات القرار والتأثير في السياسة العالمية.

font change

مقالات ذات صلة