يستكشف المسلسل الذي أنتجت منصة "هولو" جزءين منه حتى الآن، ويعرض عربيا على "ديزني بلس"، شخصية كارمي تدريجيا، فلا نعرف المعلومات المتعلّقة به دفعة واحدة أو من طريق مصدر واحد، بل من حديث الشخصيات عنه وعن ماضيه، أو من خلال تلميحات بسيطة عن مدى براعته في مهنة الطبخ، لأنه قطعا لا يتحدث عن نفسه كثيرا، ومشاهد "الفلاش باك" في المسلسل يمكن عدّها على أصابع اليد الواحدة.
في البداية نتعرّف إليه بصفته شخصا قلقا، وهذا ما يتبدّى من خلال حالة الفوضى العارمة التي تعتري إرث شقيقه الوحيد في هذا العالم، تحاصره المشاكل من كل حدب وصوب، حتى يبدو قراره بالهرب من هذه الجحيم منطقيا أكثر فأكثر للمشاهدين. في نيويورك كان كارمي يرزح تحت ضغط دائم بسبب بيئة العمل المتطلبة، لكنه كان يحصل على الاحترام الذي يستحقه إلى درجة ما، فكل من يعمل تحت إمرته كان ينفذ أوامره بحذافيرها لأن المعايير أمرٌ لا يمكن التفريط به. أما في شيكاغو فالجميع يهزأ بالمعايير التي يجلبها معه، ولا يأخذه أحد على محمل الجدّ، ولا تُحترم توجيهاته. وحينما يكاد يحرق مطعمه من طريق الخطأ، فإن ذلك لا يصدم المشاهدين، بل يبدو نتيجة متوقعة.
لا يبدو وصول كارمي إلى شيكاغو بداية لقصة جديدة، بل الفصل الأخير منها. الاستكشاف التدريجي لهذه الشخصية يعطي الانطباع أن جميع الأحداث المهمة والمفصلية حصلت مسبقا ونحن نشهد المراحل الأخيرة فقط. لم نشاهد كارمي وهو يتدرب حتى يحصل على الفرص الاستثنائية التي استحقّها في أفضل مطاعم نيويورك، ولا نفهم سبب قلقه الدائم إلا بصورة سطحية، فتعابير وجهه الباردة تخفي أكثر ما تكشف، إنه نسخة نهائية من نفسه.
أضف رشّة من القلق
يبرع المسلسل في التقاط ثقافة القلق المنتشرة في المطاعم. المونتاج السريع والانتقال المستمر بين أكثر من لقطة يعزّزان الشعور بالضياع لدى المشاهد، وهو شعور متأصّل لدى الشخصيات. لا نشاهد أي لقطات جمالية للأكل في الموسم الأول وعوضا عن ذلك نعيش في حالة ذعر دائمة لأننا نتتبع أفراد الطاقم في المطعم وهم يحاولون منع سفينتهم من الغرق، لا يركز المسلسل على ما يُقدّم الى الزبائن بقدر اهتمامه بإيجاد إيقاع سلس يمكن لأفراد الطاقم العمل بناء عليه.
لكن في الموسم الثاني وبعد هدوء العاصفة، يجد المسلسل فرصة لإظهار الجانب الجمالي والفني من المطبخ في حلقات عدّة، ويخصص شخصيات أخرى لاكتشاف صوتها الإبداعي من طريق الطبخ. سيد، على سبيل المثل، تصحبنا في رحلة عبر مطاعم موجودة على أرض الواقع حيث تجرب العديد من أصناف الطعام لإيجاد إلهامٍ مفقود، في حلقة أشبه ما تكون برسالة حب إلى مدينة شيكاغو. ماركوس يشدّ رحاله في حلقة أخرى إلى كوبنهاغن للتعلم واختراع ثلاث حلويات جديدة للمطعم، في بيئة أبعد ما تكون عن فوضى مطبخ "ذا بير"، نشاهد فيها جانبا آخر من المطاعم مليئا بالهدوء والصبر وعملية التعلم الدؤوبة.
هناك شجاعة في القرارات السردية التي اتخذها المسلسل في موسمه الثاني، لأن بدايته كانت توحي بموسم أكثر فوضوية وتوترا. لكن صنّاع المسلسل راهنوا على أهمية التوقف وتوثيق لحظات السلام والهدوء حين إيجادها، لأن أهميتها تكمن في استكشاف شخصيات أخرى. ففضلا عن سيد وماركوس، حظي ريتشي بإحدى أفضل حلقات المسلسل التي شهدت تحولا مذهلا في مسار قصته.
يقدّم على طبق من دهشة
في البداية، يوحي المسلسل أنه ينبني حول القلق الذي تتسبّب به إدارة مطعم متهالك، إنما بعد موسمين أعتقد أن القلق هو عارض جانبي لحالة أشد فتكا، وهو الفقد وإعادة اكتشاف الذات. كل شخصية من الشخصيات الرئيسة تتعامل مع نوع من أنواع الفقد. على سبيل المثل، تتعامل سيد مع فقد والدتها وهي طفلة، وما يترتب على ذلك من اختلال التوازن في علاقتها مع أبيها ومحاولاتها تبرير اختيار مسيرتها المهنية. اما ريتشي الهائم على وجهه في منتصف أربعيناته، فيتعامل مع فقدان الشغف والغاية، يتغير العالم حوله بسرعة جنونية ويشعر بقيود مخفية تتحكّم بتصرفاته وأقواله، شاعرا أن الجميع اتفق على تكوين هذا العالم الجديد من دون علمه. في حين أن كارمي عالق في جحيم من نوع آخر.