مطلع الشهر الجاري، أعلنت وزارة المالية في الكويت بيان الحساب الختامي لموازنة الدولة العامة للسنة المالية 2023/2022 حيث بلغت الإيرادات العامة 28,8 مليار دينار (94 مليار دولار)، منها 26,7 مليار دينار (87 مليار دولار)، إيرادات نفطية. أما المصروفات الفعلية فبلغت 22,4 مليار دينار (73 مليار دولار)، وبذلك تحقق فائض قدره 6,4 مليارات دينار (21 مليار دولار).
لا شك في أن الفائض تحقق نتيجة ارتفاع أسعار النفط المدفوعة بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وخفض "أوبك بلس" إنتاج النفط لدى الدول الأعضاء. لكن هذه النتائج الوردية لم تلبث أن تبدلت بأخبار مقلقة بعد إقرار مجلس الأمة الموازنة الجديدة للسنة المالية 2024/2023 في الثاني من أغسطس/آب، حيث قدرت المصروفات بـ 26,3 مليار دينار (85,4 مليار دولار)، في حين قدرت الإيرادات بـ 19,5 مليار دينار (63,4 مليار دولار)، منها 17,2 مليار دينار (55,9 مليار دولار)، إيرادات نفطية احتسبت على أساس إنتاج يومي بنحو 2,6 مليون برميل بمعدل سعر 70 دولارا للبرميل.
أما الإيرادات غير النفطية فقدرت بـ 2,2 مليار دينار (7,2 مليارات دولار). وبالتالي، سيكون العجز المتوقع 6,8 مليارات دينار (22,1 مليار دولار).
بدع النفقات
غني عن البيان أن هذه الموازنة تعد أكبر موازنة للدولة في تاريخ الكويت، لكن مكونات المصاريف لا تزال من دون تغيير ودون ترشيد، حيث بقيت الرواتب والدعوم تشكل نحو 80 في المئة من قيمة المصروفات، فبلغت قيمة الرواتب الإجمالية 14,9 مليار دينار (48,4 مليار دولار)، وقد ارتفعت بنسبة 13,3 في المئة عن مستواها في الموازنة السابقة 2023/2022. أما الدعوم فارتفعت بنسبة 34,2 في المئة لتصل إلى 5,9 مليارات دينار (19 مليار دولار)، وتشمل دعم الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء ودعم المنتجات النفطية ودعم تكاليف المواد الغذائية التموينية والمواد الإنشائية وبدل الإيجار لأصحاب طلبات السكن ومخصصات الطلبة المبتعثين.
هذه الرواتب والأجور والدعومات تظل صعبة المراس والمعالجة نظراً الى المواقف الشعبوية المناهضة لأي ترشيد أو إصلاح بنيوي يؤدي إلى تطوير أنظمة التوظيف الحكومية. لكن الموازنة لا ترصد سوى 2,5 مليار دينار للإنفاق الرأسمالي، أي ما يوازي نحو 8 مليارات دولار، بإنخفاض نسبته 15,2 في المئة عن مستواه في السنة المالية السابقة.
موازنة 2024/2023 تعد أكبر موازنة للدولة في تاريخ الكويت، لكن مكونات المصاريف لا تزال من دون تغيير ودون ترشيد، حيث بقيت الرواتب وأعباء الدعم تشكل نحو 80 في المئة من قيمة المصروفات، وبلغت قيمة الرواتب الإجمالية 48,4 مليار دولار
هناك دائماً تبريرات لارتفاع الإنفاق الجاري مثل المخصصات غير الاعتيادية ومنها ما يزيد على مليار دينار لوزارة الكهرباء والماء. كذلك مخصصات بقيمة 481 مليون دينار أو 1,6 مليار دولار لشراء رصيد إجازات موظفي الحكومة، وهي بدعة جديدة ابتدعت خلال السنوات الماضية، تُشابه ما رصد لما أطلق عليه تعويضات الصفوف الأمامية خلال أزمة كوفيد-19 للعاملين في عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية في مقابل أعمالهـم أثناء الجائحة. وإذا كان هناك من يستحق، ومنهم الأطباء والممرضون ورجال الشرطة، فإن التعويض شمل آخرين في وزارات ومؤسسات لا علاقة لها بمواجهة الجائحة لا من قريب ولا من بعيد. وقد نتجت هذه المخصصات من إذعان الحكومة لرغبات أعضاء مجلس الأمة الباحثين عن رضى الناخبين دون اعتبار للحصافة وأهمية ترشيد الإنفاق العام، والجاري تحديداً. وأقر مجلس الأمة خلال الشهر الماضي تعديلات على نظام "عافية" الخاص بالتأمين الصحي لفئة المتقاعدين لتغطية علاجهم في المستشفيات والعيادات الخاصة، وشملت التعديلات ربات البيوت اللواتي لم يسبق لهن العمل في الوظائف الحكومية. وترتفع تكلفة "عافية" الجديدة على قيمة المصروفات الجارية في الموازنة.
البطالة المقنعة وتردي الأداء الوظيفي
يتبين من الموازنة أن أهم البنود يتعلق بالمرتبات والإجور، وهذه في ارتفاع مستمر سنوياً نتيجة زيادة أعداد العاملين في الحكومة. قدرت الموازنة أعداد الوظائف الجديدة بـ 21,815 وظيفة بتكلفة إجمالية 587 مليون دينار (1,9 مليار دولار). وجاءت زيادة أعداد وظائف القطاع العام كنتيجة لمحدودية فرص العمل أمام الكويتيين في القطاع الخاص، وغياب برامج التخصيص التي يمكن أن تؤدي إلى إصلاح النظام الاقتصادي وتحرير الأنشطة من هيمنة الدولة. فالتوظيف في ادارات الدولة لا يعني سوى توفير مداخيل للقادمين الجدد إلى سوق العمل. لكن هذا التوظيف يعني ارتفاع معدل البطالة المقنعة وتردي الأداء الوظيفي. ويراوح التوظيف الجديد في الحكومة بين 20,000 و25,000 سنوياً أي في حدود خمسة في المئة من أعداد العاملين الكويتيين الإجمالي في القطاع العام المقدر بأكثر من 400 ألف موظف.
لا بد من اتباع سياسات مالية واقتصادية جديدة لمواجهة مسألة تدفق الكويتيين إلى سوق العمل الرسمي وترشيد الجهاز الحكومي ورفع كفاءته والاستفادة من التطور التكنولوجي وتطبيقاته في الأعمال الحكومية.
جاءت زيادة أعداد وظائف القطاع العام كنتيجة لمحدودية فرص العمل أمام الكويتيين في القطاع الخاص، وغياب برامج التخصيص التي يمكن أن تؤدي إلى إصلاح النظام الاقتصادي وتحرير الأنشطة من هيمنة الدولة
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، عندما كان الراحل جاسم الخرافي وزيراً للمالية، كان هناك توجه لتطوير الموازنة بحيث تصبح من أهم أدوات التنمية المستدامة، إلا أن الجهود توقفت بعد حل مجلس الأمة حلاً غير دستوري في يوليو/تموز 1986.
كيف يمكن أن تتحول الموازنة إلى أداة لتعزيز جهود التنمية؟ لا بد من صياغة علاقة إيجابية بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص ونقل ملكية العديد من المؤسسات والمرافق إلى القطاع الخاص مثل مرافق تقطير المياه وتوليد الطاقة الكهربائية والاتصالات الأرضية ووسائط النقل الجوي والبري وربما تكليف القطاع الخاص إدارة الموانئ والمطار.
في الوقت نفسه، لا بد من تشريع قوانين الضريبة لجني إيرادات للخزينة العامة في مقابل الأرباح التي تحققها الشركات الخاصة. يضاف إلى ذلك أن نقل ملكية المرافق، الكهرباء والمياه والاتصالات، إلى القطاع الخاص، يعني مراجعة رسوم الخدمة بما يتوافق مع التكاليف الحقيقية لإنتاج تلك الخدمات ووقف الدعم. كذلك لا بد من مراجعة سعر الوقود المستخدم في وسائط النقل. إذ يجب أن تعتمد الكويت ضريبة القيمة المضافة المعتمدة خليجياً على السلع والخدمات، التي سبق أن حددتها لجان مجلس التعاون الخليجي. الإنفاق الرأسمالي يمكن أن يتمثل في شراكات حكومية مع القطاع الخاص في مشاريع عديدة، ومنها مشاريع الإسكان والطرق والمرافق الأساسية والبرامج الإنمائية الأخرى.
عند التمعن في الموازنة الجديدة يتبين أن الفلسفة المالية للدولة في الكويت غير منطقية وغير مستدامة في ضوء الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل، وربما وحيد، نظرا الى المتغيرات في اقتصادات الطاقة والتوجهات المتواترة نحو البدائل النظيفة
عند التمعن في الموازنة الجديدة يتبين أن الفلسفة المالية للدولة في الكويت غير منطقية وغير مستدامة في ضوء الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل، وربما وحيد، نظرا الى المتغيرات في اقتصادات الطاقة والتوجهات المتواترة نحو البدائل النظيفة. ربما ستستغرق عملية تطوير مصادر الطاقة إلى بدائل مقبولة اقتصادياً عدداً من السنوات، إلا أن تحوط الكويت والدول المصدرة للنفط يظل الخيار المعقول والجدير بالاهتمام. الكويت تواجه معضلات في نظام التعليم والارتفاع المتزايد في أعداد الشباب وصغار السن وارتفاع معدلات الحياة، مما يزيد من الأعباء على الحكومة، لذلك فإن التفكير في السياسات البديلة أصبح ضرورياً ولا يمكن إغفاله.
يبقى التساؤل الكبير، هل يملك المجتمع السياسي العقلانية والجرأة لمواجهة الخيارات الصعبة والابتعاد عن السياسات الشعبوية المدمرة والمكلفة اقتصادياً ومالياً؟ ربما لا تزال الأمور مقبولة والإمكانات المالية متوافرة في الوقت الحاضر، لذلك فإن اعتماد الحلول الناجعة التي تؤسس للتنمية المستدامة في هذه المرحلة يظل أكثر جدوى من انتظار مواجهة أوضاع صعبة تؤدي إلى المعالجة بأسلوب الصدمة.