بنظرة على المشهد الليبي، يبدو أن ما عُرف اصطلاحا بـ "القضية الفلسطينية"، لم يتوارَ تماما، وما زال مطروحا في اهتمامات مواطنين احتجوا في طرابلس وعدد من المدن تنديدا بالاجتماع الذي كشفت عنه وزارة الخارجية الإسرائيلية بين وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية نجلاء المنقوش ونظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين في منتصف أغسطس/آب بالعاصمة الإيطالية، روما.
ويرى محتجون، وأغلبهم من جيل الشباب، أنهم "أصحاب قضية"، فبلدهم يُجرم التعامل أو التطبيع بأي شكل من أشكاله مع إسرائيل منذ عام 1957. ونشر متظاهرون صورهم ومقاطع فيديو لهم على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، وكتبوا عبارات تندد بالاحتلال الإسرائيلي، مطالبين باستقالة حكومة طرابلس برئاسة عبدالحميد الدبيبة، واصفين لقاء روما بـ"الوكسة" امتدادا لنكسة 1967 ونكبة 1948.
ولعل البعض يتساءل: ما الذي أبقى الوعي التاريخي لمتظاهرين في عمر المراهقة يقظا اليوم للمطالبة بدولة للشعب الفلسطيني؟
أغلب هؤلاء المتظاهرين هم من مواليد ما بعد عام 2000، أي بعد سبعة وعشرين عاما على آخر حرب بين إسرائيل والعرب، حرب أكتوبر/تشرين الأول، أو العاشر من رمضان، كما تعرف في مصر، وحرب يوم الغفران، كما تعرف في إسرائيل.
هذا عن المشهد في الشارع الليبي خلال الأيام الأخيرة الماضية بعد لقاء المنقوش-كوهين، أما عن المشهد السياسي في ليبيا، فقد أصدر الدبيبة قرارا بإيقاف الوزيرة احتياطيا وإحالتها للتحقيق. وقالت الخارجية الليبية في طرابلس إن ما حدث في روما "لقاء عارض غير رسمي وغير مُعَدّ مسبقا، أثناء لقاء مع وزير الخارجية الإيطالية، ولم يتضمن أي مباحثات أو اتفاقات أو مشاورات". وأضافت أن الوزيرة أكدت "ثوابت ليبيا تجاه القضية الفلسطينية بشكلٍ جَلي وغير قابل للتأويل واللبس".
وقالت رئاسة الوزراء في بيان لها: "إن وزارة الخارجية تجدد رفضها الكامل والمطلق لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتؤكد موقفها تجاه القضية الفلسطينية". والاثنين، أعلن الدبيبة من السفارة الفلسطينية في طرابلس إقالة المنقوش من منصبها، وفق ما أفادت الممثلية الدبلوماسية في صفحتها على "فيسبوك".
وطالب أعضاء في مجلس النواب ببنغازي، شرقا، في جلسة طارئة، بمحاكمتها، وسط تقارير إعلامية ليبية تحدثت عن مغادرتها البلاد على متن طائرة تابعة لحكومة الوحدة الوطنية ووصولها إلى تركيا. ونفى جهاز الأمن الداخلي ما يتداول على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن السماح أو تسهيل سفر المنقوش.
وينص القانون الليبي على ملاحقة أي شخص جنائيا في حال التواصل مع إسرائيليين أو أي كيان يمثّل إسرائيل. ويمكن أن تصل عقوبة ذلك إلى السجن مدة تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات، بموجب قانون يعود تاريخه إلى عام 1957.
ولا توجد علاقات رسمية بين إسرائيل وليبيا التي قدمت تحت حكم معمر القذافي دعما ماليا وعسكريا وسياسيا كبيرا لحركات فلسطينية بارزة، وانتهج القذافي سياسة "اللاءات الثلاث": لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل، التي اعتمدتها القمة العربية الرابعة في الخرطوم بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967.
لكن يبدو أن هناك رأيا آخر في ليبيا، خلاصته أن البرغماتية مفتاح يسمح للبلد الغني بالنفط بمد جسور مع إسرائيل للاستفادة من منافع تكنولوجية وأمنية وسياسية يمكن أن تجنيها طرابلس من فتح صفحة جديدة مع تل أبيب. فيقول أحد الليبيين الذي استخدم اسما مستعارا، على ما يبدو خوفا على سلامته الشخصية، في موقع "فيسبوك": "مع كل حبنا للفلسطينيين، ودعمنا التقليدي لهم، نصل إلى نقطة لن نتمكن فيها بعد الآن من التضحية بمصالحنا من أجلهم"، واصفا الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بـ "قضية محلية".
ونقلت "رويترز" ووكالة "أسوشييتدبرس" عن مسؤولين ليبيين قولهم إن الدبيبة هو الذي طلب من إيطاليا ترتيب الاجتماع بين المنقوش وكوهين "على أمل الحصول على دعم قوي من أميركا ودول أخرى لحكومته".
ويرى مختصون في الشأن الليبي أن الدبيبة الذي يترأس حكومة معترف بها دوليا شُكّلت في إطار عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، أعطى موافقته على هذا الاجتماع، وأن المنقوش ليست سوى "كبش فداء"، فيما صرح مسؤول إسرائيلي بأن الاجتماع استمر قرابة ساعتين.
الرواية الإسرائيلية
لكن الرواية الإسرائيلية تؤكد أن الاجتماع عُقد بعلم وتنسيق رفيع المستوى بين الطرفين وبحضور وزير الخارجية الإيطالية أنطونيو تاجاني. ففي بيان مفاجئ يوم الأحد الماضي، قال وزير الخارجية الإسرائيلية إيلي كوهين إنه التقى نظيرته الليبية في روما، واصفا اللقاء بـ"التاريخي"، وقال إنه تحدث معها حول "الإمكانات الكبيرة للعلاقات بين البلدين وأهمية الحفاظ على التراث اليهودي في ليبيا".
وأضاف البيان أن اللقاء "خطوة أولى في العلاقة بين إسرائيل وليبيا، فحجم ليبيا وموقعها الإستراتيجي يمنحان العلاقات الثنائية أهمية وإمكانات هائلة لدولة إسرائيل". ووفقا لوزارة الخارجية الإسرائيلية، ناقش الجانبان أيضا الطرق التي يمكن لإسرائيل من خلالها مساعدة ليبيا في مجالي الزراعة وإدارة الموارد المائية.
وإن كان ذلك الرأي تعبيرا مخالفا عن الرأي السائد في الشارع الليبي، من واقع الاحتجاجات المستمرة لأيام بعد لقاء المنقوش-كوهين، إلا أن وزير الاتصالات والتعاون الإقليمي السابق في إسرائيل، أيوب القرا، أكد أنه شارك أكثر من مرة في لقاءات سرية مع مسؤولين ليبيين في إطار "التطبيع الاقتصادي" بين إسرائيل ودول عربية.
وقال في تصريحات لقناة "أي 24 نيوز" الإسرائيلية: "لا علم لدي من له المصلحة بأن يكشف هذه الجلسة بين وزير الخارجية ووزيرة الخارجية الليبية. نحن لسنوات شاركنا في لقاءات على مستوى عال وأقل أحيانا، لدينا علاقات مع كل القيادات الليبية، ولا نتحدث عن هذا الأمر. فذلك أمر طبيعي وجزء من المفاهيم السياسية التقدمية".