تراودني رغبة في أن أهتف تأييدا لأهل السويداء المنتفضين ومعهم أهالي مناطق سورية أخرى تجدّدت روح التمرّد فيهم، إن كانت قد خمدت أصلا. أتردّد ثم أختار الصمت. لم أعد قادرا حتى على التعبير عن مشاعر الدعم والابتهاج بمظاهر الاحتجاج المدني السلمي الذي يمارسه أهل جبل الدروز. ألمح مقاطع فيديو لتلك الاحتجاجات. أرى نساء ورجالا، شبابا وأطفالا من الجنسين، يظهرون جميعا كاشفي الوجوه. شيء يفوق الشجاعة بعد المذبحة الفظيعة التي شهدتها سوريا. أرغب في أن أمدّ يدي وأغطي وجوههم، لعلني أحميهم من مصير رأيته يقع لغيرهم في ساحات وميادين أخرى، في سوريا وخارجها. أشهق في داخلي من تلك الشجاعة. يقول لي صديق إنها شجاعة اليأس. لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه. لكنْ، ألم تكن تلك الحال قبل عشر سنوات؟ ألم يكن اليأس هو الشرارة الأولى؟ أليس دائما؟ ألم توصلنا فظاعة القتل والتعذيب والأسر والإهانات التي لا يتصوّرها عقل، إلى أن نقول يا ليت هذا لم يكن.
يظلّ السؤال المؤرق: هل نصفّق لهؤلاء المنتفضين؟ هل نشاركهم عن بعد حماستهم؟ هل نردّد معهم شعاراتهم؟ هل نمتلك، من مواقعنا وأماكننا الآمنة، الحقّ الأخلاقي في ذلك؟ وفي الوقت نفسه، هل لدينا الحقّ الأخلاقي في الصمت؟ ألا تحمل عبارة "صمت العالم" التي قيلت وتقال عند كلّ مذبحة وكلّ قهر، إدانة صميمة لكلّ من لا يتعاطف مع الضحايا والمظلومين، ولو بأضعف الأيمان؟
أرى نساء ورجالا، شبابا وأطفالا من الجنسين، يظهرون جميعا كاشفي الوجوه. أرغب في أن أمدّ يدي وأغطي وجوههم، لعلني أحميهم من مصير رأيته يقع لغيرهم في ساحات وميادين أخرى، في سوريا وخارجها
أعادت انتفاضة السوريين المتجدّدة، طرح الأسئلة المؤرقة. كنا قد استكنّا للأمر الواقع، ولسياسات الأمر الواقع، ولنظرية أن النظام انتصر في نهاية المطاف، بتنا نردّدها بدم بارد، وعقول باردة، وقلوب باردة، لأن شلال الدم بلغ الحلوق، وأخرس الكلمات في الحناجر، والمشاعر في الصدور. أحسب أن ما وقع في سوريا، ولسوريا وأهلها، رفع خيمة الصمت الهائلة في أرجاء كثيرة من العالم، وصبّها خرسانة صلدة في القلوب. لا نريد مزيدا من الألم. لا نريد مزيدا من الموت. تعبنا. لكن أليس هذا ما فعله السوريون البارحة، وما يفعلونه اليوم؟ أليس هذا كنه صرختهم وجوهرها منذ اللحظة الأولى: لا نريد مزيدا من الألم. لا نريد مزيدا من الموت. ومع هاتين الصرختين، أمس واليوم: لا نريد مزيدا من الذل والمهانة. ألم نردّد جميعا منذ نعومة أظفارنا "وإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى"، و"للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق" و"من يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر"... إلخ. أكانت هذه الكلمات مجرد كلمات؟ أنحن أجيال من الأشعار والشعارات؟ أكانت رواية منطقتنا برمتها عن التطلع إلى الحرية والكرامة والازدهار، محض كذبة في الكتب المدرسيّة، صدّقناها في غفلة منا، وحين ارتطمت في الواقع تخلصنا منها مثلما يتخلص المرء من عادة سيئة؟
الأمثولة نفسها في العراق، وفي لبنان، وفي فلسطين... تعدّدت الأسباب والظلم واحد. ورأينا "أفضل أبناء جيلنا" كما يقول غينسبرغ في قصيدته الشهيرة، يطحنون طحنا ويمزّقون أشلاء، ومن لم يمت رأيناه يفقد عينا أو يدا أو رجلا أو يختفي في ظلمة السجون، ليخرج، إن خرج، مدمّرا خاليا من كلّ شيء.
في النهاية صرنا نلوم الضحايا. إن لم تكونوا قادرين على النصر في النهاية، فلماذا بدأتم أساسا؟ وللمهاجر بحرا صرنا نقول: إن كنت ستغرق فلماذا تركب البحر؟ مريرة كانت الوقائع، وساحقة كانت النتائج، حتى صار الواحد منا يشكّ عميقا في كلّ اقتناع سابق لديه. بل صرنا في سرّنا، نعجب بأولئك السفّاحين القادرين دوما على النجاة بفظائعهم. لا بدّ أن للتاريخ قوّة تفوق قدرتنا على الفهم. لا بدّ أننا أسأنا فهم السماء.
المختلف هذه المرّة أن أولئك الذين يطلّون بوجوههم العارية ما عادوا ينتظرون العالم. ليس مهما أن يتعاطف أحد أو لا يتعاطف. ليست الكلمات مهمة ولا الأشعار. هم يعرفون أن جميع الكلمات، عدا كلماتهم، فارغة
اخترت الصمت، لأنني إذ رأيت "الجنديّ" يرمي بقدمه الضحايا المحجوبة عيونهم، في حفرة الموت، ولم يحدث شيء بعدئذ، كما لم يحدث شيء حين قتل الآلاف بالأسلحة الكيميائية، ولا بالبراميل المتفجّرة، ولا حين أهين الرجل أمام زوجته، وأهينت الأم أمام أبنائها، وقتل الأبناء أمام ذويهم، رأيت وجه الجحيم الحقيقي: إنه العجز عن فعل شيء في وجه الظلم. هذه جحيم جيل بأكمله، بصرف النظر عن مكانه في السياسة، أو موقعه في الجغرافيا.
اليوم عادوا. أطلّوا مجدّدا بوجوههم العارية وأصواتهم الواضحة وأسمائهم المعروفة. كيف يحصل ذلك؟ لا أحد يعرف. يقول بعضهم إنه اليأس. لا بدّ من أنه اليأس، مضروبا هذه المرّة بأضعاف مضاعفة. وهو الحسّ الغريزي بالكرامة الإنسانية. ولا بدّ أنه الظلم الذي تراكم وتضخّم حتى بلغ مستويات أسطورية. لكنّ المختلف هذه المرّة أن أولئك الذين يطلّون بوجوههم العارية ما عادوا ينتظرون العالم. ليس مهما أن يتعاطف أحد أو لا يتعاطف. ليست الكلمات مهمة ولا الأشعار. هم يعرفون أن جميع الكلمات، عدا كلماتهم، فارغة، وجميع المواقف، عدا مواقفهم، فاقدة المعنى الإنساني والأخلاقي وحتى السياسي.
ما يقوله السوريون هذه المرة أنهم ليسوا طوائف، ولا أحزابا، ولا حتى اتجاهات فكرية وعقائدية وسياسية، لكنهم "شعب" و"الشعب يريد إسقاط النظام"، والأبلغ من ذلك كله أنهم لا ينتظرون شيئا من أحد، وأن كلّ الدعم الذي يحتاجون إليه هو أن يكونوا شعبا واحدا موحدا يبني وطنا، وليس وطنا تنتحب فوق أشلائه شرذمة من الشعوب.