عدد "شعر" الأخير يولد ثانية ويعيد الاعتبار إلى مشروعها الحداثيّ

توقفت عن الصدور في 1970

عدد "شعر" الأخير يولد ثانية ويعيد الاعتبار إلى مشروعها الحداثيّ

بيروت: لم تكفّ مجلة "شعر" منذ عددها الأول الصادر عام 1957 إلى عددها الأخير الصادر عام 1970 عن صناعة التأثير الأعمق والأكثر راديكالية في الثقافة العربية عموما والشعرية خصوصا. تجربة إعادة طبع عددها الأخير التي قام بها الناشر سليمان بختي عبر دار "نلسن"، ليست في عمقها سوى رغبة في إعادة التواصل مع هذا البعد والإفادة منه سعيا إلى استئنافه واستكماله. لا يتعلّق الموضوع بالحنين ولا بدفع الماضي لكي يشهد بثرائه على خواء الحاضر، ولا بالتفجّع والرثاء بل الرغبة في التحريض والحضّ على العمل انطلاقا من التراكمات التي أسّستها "شعر" وما نما من بعدها، وقراءة المنهج الذي سارت عليه، والذي قد يكون لا يزال صالحا وقد يكون صار مجرد عنوان من عناوين الذاكرة، لكنه في كل الأحوال يفتح مسارات ويضيء على تجربة لا يراد لها أن تكون فريدة ووحيدة، بل أن تكون مقترحا ونقاشا.

السبب الأبعد غورا وراء الدفع بنتاج مطبوع من أكثر من خمسين عاما إلى الواجهة من جديد، هو السعي إلى تفكيك استثنائيته، وتحويله إلى معلم من معالم كثيرة ومتنوّعة تشهد على نتاج وفير وتجارب غزيرة.

يصعب تجنّب الغرق في روعة العدد الأخير الذي نطلّ منه على نتاجات بعض أبرز المؤثرين في الثقافة العربية بكل أطيافها، والذين كانوا يكتبون حينها همومهم ويعرضون مشاريعهم.

في ذلك العدد الأخير يجتمع فحول الشعر والفكر والأدب والفن. تتجلى بصمة وضاح فارس الذي صمّم الغلاف والرسوم الداخلية للعدد وعقلانية يوسف الخال بمقدمته الخاصة بموضوع الفكر والحرية الذي لا يزال نقاشا محتدما وحادا ومعاصرا، وشراسة أنسي الحاج وقصائده المؤسسة للحداثة الشعرية، وتمرّد وتجريبية كاتب ياسين الذي تنشر له مقاطع من مسرحية بعنوان "الرجل ذو الصندل الكاوتشوك" ترجمها عن الفرنسية هنري حاماتي.

يصعب تجنّب الغرق في روعة العدد الأخير الذي نطلّ منه على نتاجات بعض أبرز المؤثرين في الثقافة العربية بكل أطيافها، والذين كانوا يكتبون حينها همومهم ويعرضون مشاريعهم

نعثر كذلك على قصائد لمحمد عفيفي مطر، وباسيل عكولة، وأحمد مرسي ومحمد زفزاف، ومقالات نقدية لغالي شكري، وروز غريب،  وسهيل بشروئي، وهانز بندر، وإدريس الخوري، إضافة إلى مقابلة مع الرسام السوريالي الشهير سلفادور دالي أجرتها نور سلمان، وفصل من رواية "البومة العمياء" لصادق هدايت، ومشهد "دائرة التباشير القوقازية" لبرتولد بريشت، كما لا تغفل المجلة تقديم مجموعة من الأخبار الثقافية وعرض أهم الكتب الصادرة في تلك الفترة.

 

روح جماعية

يستحضر العدد  الروح الجماعية للمجلة، إذ إن تجربتها عموما وما يتجلّى في العدد الأخير الذي نتلمّسه بين أيدينا حاليا، يضيئان على فكرة اجتماع مثقفين وكتاب وفنانين ومفكّرين من مشارب ذوقية وسياسية وثقافية وشخصية مختلفة ومتناقضة تحت سقف الانحياز إلى مغامرة التحديث والتعبير عنها.

كانت الجماعية التي تتوحّد في الاتجاه، تتنافر في المسالك والطرق والأساليب والقراءات والخيارات التقنية والكتابية، صانعة بذلك فرديات شديدة الخصوصية من داخلها وعبر ما تتيحه. المشهد كان بمثابة تصادم شرس واختبارات مستمرّة، يعيد فيها كل من خاض غمار التجربة إعادة اكتشاف دائمة لعلاقته مع الفكر والكتابة ومع مشروعه الخاص.

كان الانفتاح على العالم عبر الترجمة الذي كان المؤسّس يوسف الخال قد رأى فيه مدخلا لتفعيل الثقافة العربية وإعادة بنائها ودمجها بالعالمي والحديث كمقدمة للنهوض العام، في صلب المشروع، ساعيا إلى أن تكون تلك المجموعة التي رافقت تجربة المجلة قادرة على هضم المختلف واستيعابه وتمثله، وتذويب كل ذلك في قالب الثقافة المحلية والخصوصية لتقديم نتاج عالمي الهوى والاتجاه وحديث في منطقه وأسلوبه، لكنه في الآن نفسه ينتمي إلى الثقافة العربية ويصدر عنها.

أنسي الحاج ويوسف الخال

وقد جعلت آليات إنتاج العمل التي كانت تتكثف وتتخمّر عبر اللقاءات الأسبوعية التي كان الخال يعقدها مع كتّاب المجلة والتي يحضر فيها كل شعر العالم ونقاشاته، كل ما كان يصدر من نتاج، جماعيا في أصل تكوينه وفي مرجعيته، بمعنى أنه لا يمكنه أن يرى النور بالشكل الذي ظهر فيه من خارج عملية الاصطدام الدائم بفكر الآخر وتجربته، التي تجعله شريكا في إنتاج النص وحاجة ضرورية لا غنى عنها لاستمرار الإنتاج واكتماله.

لا يمكن العثور في أيامنا هذه على تجربة مماثلة، فالجماعية بمعنى التعاون والتفاعل غابت وحلّ مكانها الهوس الجماعي والهذيان الجماعي وبات كل ما يمكن رده إلى الجماعة يقتصر على البؤس والتخلف.

لعلّ الجو الذي شاع بعد نكسة 1967 والذي قد يكون إقفال المجلة بعدها بفترة وجيزة، هو أحد معالم سيطرة اليأس الجماعي والصدمة النفسية الجماعية التي أخرجت الفعل الثقافي من المشهد بوصفه نوعا من الوعي الذي لا يحتمل، وأحلّت مكانه موجة عارمة من الخرافات والبكائيات لا تزال قائمة حتى الآن. فباتت خيارات المقاومة بالتحديث وإشاعة الوعي الفائق والحاد بالوجود والذات والعالم التي كانت في صلب المشروع الجماعي لمجلة "شعر"، خارج المعادلة، لأن شروطها وظروف إنتاجها تفكّكت وتشظّت.

يمكن تلمّس تنامي تلك الظاهرة في الخطاب الثقافي العام الذي تبع مرحلة إقفال مجلة "شعر" عام 1970 بحيث يمكن اعتبار ذلك التاريخ بداية نهاية ظهور الأعمال الفنية القائمة على الجماعية، أو تلك التي تتطلّب روحا جماعية أو تقوم على تعاون مجموعة من الفنانين والمفكّرين من دون أن تكون خطابا يحيل على سلطة محددة أو يخاطبها أو ينطق باسمها.

Getty Images
الرسام السوريالي الشهير سلفادور دالي

ذوت السينما الاستعراضية والمسرح الاستعراضي وماتت المجلات الثقافية الشاملة التي لا تحمل توجها أيديولوجيا محدّدا. سيطرت الفردية على النتاج الثقافي عموما، سواء كانت صادرة عن النجم الأوحد والسوبر ستار أو كانت أعمالا تنطق باسم سلطات كان الخطاب الدعائي يجعل الجماهير رافعة لها، في حين أنها تتجه إلى دعم صورة الديكتاتور الفرد وتعزّزها.

انتزعت روح الاختلاف من الجهد الجماعي التي كان من شأنها تحويل تجارب مثل تجربة مجلة "شعر" إلى مصنع تجارب وخبرات، وحلّ التماثل المرعب في روح الجماعات وفُرض على التجارب والنزعات، فصار كل ما يبدو اختلافا في الظاهر مجرد تنويع على المشهد نفسه وإعادة إنتاج للخطاب الواحد.

يذكّر اجتماع كل هؤلاء المبدعين بين دفتي عدد مجلة "شعر" بقوّة الجهد الجماعي، ولعل هذا التذكير دعوة إلى إكماله وتطويره برؤية جديدة ومختلفة

يذكّر اجتماع كل هؤلاء المبدعين بين دفتي عدد مجلة "شعر" بقوّة الجهد الجماعي، ولعل هذا التذكير دعوة إلى إكماله وتطويره برؤية جديدة ومختلفة. العالم بات أرحب وأكثر تنوعا وتسارعا، وما كانت "المجلة" تدعو اليه من تحديث قبل 50 عاما كان من الممكن حينها مناقشته على أنه مجرد خيار مطروح، لكنه الآن لم يعد كذلك بل بات ضرورة قصوى لاستمرار الحياة واللغة والشعر.

 

معارك التحديث

طالت تجربة مجلة "شعر" تهمٌ كثيرة كان أبرزها التغريب والابتعاد عن الثقافة العربية وتجنب المواقف السياسية الواضحة من القضايا المطروحة وعدم الالتزام. لكنّ التمعّن في مشروع المجلة كما تجلّى في عددها الأخير يكشف أن كل تلك التهم كانت واهية، فهي لم تهتم بالانتماء إلى أي تيار أو مناخ بل اشتغلت على إعادة تعريف كل ما كانت تتهم بتخريبه ومعاداته، فقد قدّمت اقتراحات لتعريف العروبة والسياسة والالتزام والشعر والتراث، وحرصت على وضعها في مواجهة تحدّيات الزمن والحداثة.

Getty Images
أدونيس

الإصرار على الترجمة منح التجارب الشعرية التي تبنتها المجلة عمقا وخصوصية، وأحدث نقلات جبارة في الشكل وفي الأسلوب وفي التراكيب اللغوية، وأسّس للانفتاح على مواضيع جديدة ومعالجة الشائع بمنطق جديد ومختلف. فلم يعد المثقف العربي وحيدا في العالم ولا منغلقا على ذاته وهمومه، بل بات قادرا على البثّ والتلقي والتمثّل والتأثّر والتأثير، وعلى أن يكون شريكا في تكوين المشهد الثقافي في العالم وبلورته.

حملت المجلة هذا المشروع وعمّمته على كل المجالات والمفاهيم التي اشتغلت عليها، فكان امتداده الطبيعي والتلقائي يحمل وعيا سياسيا حادا ينطوي على رغبة في التغيير. على الرغم من عدم الخوض المباشر في السياسة لكنّ المواقف السياسية كانت حاضرة في قلب النصوص وليس خارجها.

كانت نزعة التغيير الشامل التي تفصح عنها ورشات الترجمة، والتي يحمل العدد الأخير معالمها بوضوح من خلال نصوص ومشاهد مسرحية مترجمة، تدفع في اتجاه هدم الصروح السياسية القائمة والثابتة انطلاقا من تغيير النظرة اليها وتفكيك الآليات التي تحلّ فيها في الحياة العامّة وتصادرها.

كان الثابت مصدر السلطات السياسية وهو نظام كان موصولا في أساس تكوينه بالثقافة والفكر ولذلك اعتُبر رمي الحجارة في مستنقع الثبات وتوسيع الحدود وفتحها على كل التجارب العالمية المغايرة والمتناقضة، نوعا من إعلان الحرب على السائد في الفكر والسياسة والاجتماع والثقافة ودعوة إلى إعادة تعريف كل شيء انطلاقا من أدوات جديدة.

Getty Images
برتولد بريشت

كان التغريب الذي اتهمت "شعر" بالدفع في اتجاهه نوعا من تعريب العروبة إذا صحّ التعبير، إذ إن تعريفها العام اقتصر على ربطها بالانهماك في تكريس أولوية التكرار من دون قدرة على الخلق والإبداع. فكان وضع هذا التراث الكبير في أتون التأويل وإعادة القراءة ورشة اكتشاف وإحياء تطمح إلى طرحه من جديد في هيئة نتاج حي يتفاعل مع زمنه، بينما لم تكن تلك الهالات التي أحيط بها سوى عمليات دفن. فكان التراث العربي يحضر من خلال عملية دينامية تتفاعل معه وتنتقده وتتمثّله أو ترفضه وبذلك يبقى ضمن دائرة النقاش بينما يخرجه التمجيد منها ويحيله على المتحف.

 دافعت "شعر" عن تعريف جديد ينظر إليه بوصفه انهماكا كاملا في الاستقلال عن مرجعية كل القضايا، والغوص العميق في الذات وترك العالم ينبثق منها


من المعارك التي خيضت نقديا تلك المتعلقة بالشكل والمضمون وبدت فيه المجلة قادرة على انتقاد نفسها وكتابها، أو فتح نقاش حيّ مع تجربتها. مع انتشار ترجمات الفكر الغربي بدأ الكثير من الشعراء والكتاب يلتقطون ظلال الأفكار والمفاهيم الفلسفية للمدارس السائدة مثل الوجودية والعبثية والسوريالية وغيرها، ويبثونها في أعمالهم. نعثر في العدد الأخير على مقال نقدي لروز غريب تنتقد فيه هذا النزوع في الشعر وتعتبر أن ما يجعل منه شعرا، على الرغم من الارتباط التاريخي للتجارب الشعرية بالسياقات الفكرية الفلسفية والفكرية وغيرها من التأثيرات، ليس قدرته على صبّ مضمون فلسفي داخل النص الشعري ولكن في كيفية استدماج كل التأثيرات وتذويبها في قالب فني محكم، لأنه خارج هذا البناء، فإن شرط النوع لا يكون متحققا، ويصعب تسمية ذلك النص بالشعر، بل قد يكون أقرب إلى الخطاب العلمي أو الفكري.

لقد أعادت مجلة "شعر" تعريف الالتزام، الذي كان يعني في نظر منتقديها الانخراط المباشر في النضال السياسي أو الاجتماعي وتحويل النتاج الأدبي الى مرآة لذلك النضال. دافعت عن تعريف جديد ينظر إليه بوصفه انهماكا كاملا في الاستقلال عن مرجعية كل القضايا، والغوص العميق في الذات وترك العالم ينبثق منها عبر وعي منحوت بإزميل المعرفة والتجارب، والاصطدام العنيف بثقافات العالم وشعره وفلسفته، وترك القضايا تتولّد من جديد من داخل التزام مضن يُعنى بتطوير مناهج التعبير وتقنياته ومفاهيمه.

فالالتزام كما نظرت إليه "شعر" ليس تناغما ساذجا مع القضايا وأشكال طرحها القائمة بل مصنع تنتج فيه القضايا طازجة وحية وليس مادة جاهزة يتناولها الكتاب من دون الحق في تأويلها وتعريفها.

 في النهاية، فإن الأهمية الدائمة لاستعادة تجربة "شعر" تكمن في تلك الدعوة التي لا تكفّ عن الصراخ في وجهنا للمطالبة باستئناف التجربة وتطويرها انطلاقا من نزعة النسف والهدم التي لا بد منها لإعادة البناء على أسس جديدة أكثر صلابة ومتانة.

استعادة عدد "شعر" الأخير تضمر دعوة إلى نسفه وتجاوزه، لأن المجلة تكون بذلك قد حققت مشروعها أو أنها بكلمات آخر الأحياء من مؤسسيها الشاعر شوقي أبي شقرا الذي كتب مقدمة لهذا العدد المستعاد "ذلك الخصب الذي به رعشة الإقامة، وكأنه يدعونا ويدعو الشعراء إلى حيث يكونون الحرية ويؤلفون قبيلة الأحرار خارج أي وزن وأي ملامة".

font change

مقالات ذات صلة