بعد موسم الفريكة بأسابيع قليلة، تنضج حقول القمح كذهب خالص يعلن عن شيخوخته ورغبته بالموت، شهدتُ كل مراحل تطور الحصاد، أوائل سبعينات القرن الماضي، رأيت ظهور النساء والرجال الذين يحصدون القمح بالمناجل متشقّقة من التعب، وحتى استخدام أحدث أنواع الحصادات في الثمانينات.
بعد اختيار بذار العام المقبل، والقمح المعد لصنع البرغل بأنواعه، يرسل ما تبقى لتسويقه في "الميرا" حصرا حيث تحتكر الدولة تجارة الحبوب.
غالبا يبدأ موسم تحضير البرغل بإعلان جماعي تهبّ فيه القرية بأكملها للاحتفال بهذا الطقس، لطالما كان تحضير المؤن طقسا جمعيا متوارثا عبر آلاف السنين.
ليس موسما لتحضير البرغل فحسب، بل للحب بين شباب القرية وبناتها، تبادل المواعيد والنظرات الحارة، وبهجتنا نحن الأطفال الذين نلتقط الغمزات، ونعمل سعاة بريد شفاهيين، بتحلقنا حول الحلّة الكبيرة التي تُسلق فيها حبات القمح القاسي، بعد "تصويله" على حافة البئر.
النساء ينشلن الماء من البئر، ويُغسل القمح الموضوع بغرابيل مغطّسة في جرن حجري كبير، ثم يُغسل مرة ثانية وثالثة ليصبح نظيفا (مصولا).
تشارك الصبايا المرشحات للزواج من شباب العائلة صاحبة الطقس بهمة ونشاط، وتراقب الجدات كل شيء بصمت، يجلسن على كراسي قريبة من البئر يثرثرن ويراقبن كل شيء، تلتمع عيونهن، ويتبادلن نظرات متفاهمة.
تروى حكايات عن رجال كانوا يحرّكون الماء المغلي بأذرعهم العارية، ليستحقوا صفات الأولياء الذين كرمى لهم حوّل الله الماء المغلية إلى برد وسلام
ينتظر الأطفال وصول الرجل الذي سيسلق القمح، يأتي الرجل حاملا الحلّة الكبيرة على حماره، ينصبها قرب السطح الذي سينشر عليه البرغل المسلوق، أو قرب البئر. حركات الرجل تشي بخبرته الطويلة ونجوميته التي ينتظرها كل عام، يدور حول الحلّة، يعاونه رجال أشداء لتركيزها على أحجار ثابتة، توقد النار في قيظ الصيف، نراقب غليان الماء وننتظر بفارغ الصبر نضوج حبات القمح.
تروى حكايات عن رجال كانوا يحرّكون الماء المغلي بأذرعهم العارية، ليستحقوا صفات الأولياء الذين كرمى لهم حوّل الله الماء المغلية إلى برد وسلام، ومن هؤلاء الرجال كان أخوال أمي التي تعيد سرد حكايا عائلتها وأساطيرها على مسامعنا، تدعوهم ليباركوا رزقنا وطعامنا، كنت مولعا بهذه الحكايات والتعرّف إلى هؤلاء الرجال الذين يكتسبون صفة القداسة، فأراهم أناسا يتمتعون بحكمة كبيرة ليحافظوا على وقارهم وحكمتهم، قلت لأحدهم مرة "يا خال لا أصدق أنك حرّكت الحلّة بذراعك العارية" فنظر إليّ مشفقا على ضلالي صامتا وخائفا من جدتي الحاملة إرث عائلتها الديني التي تحبّ أحفادها، وتدافع عنهم حين يتمادون.
في أعماقي، كنت معجبا بالرجال الذين يقومون بأفعال خارقة كي يلفتوا نظر عشيقاتهم، فيما بعد تعرفت إليهم، رووا لي بخجل شديد قصصا خرافية عن أزمان ماضية، أشاروا إلى نساء مهملات وبائسات وعجائز كن ذات يوم يحتاج لفت نظرهن إلى أكثر من فعل خارق كحمل جوال من القمح بيد واحدة، وتحريك حلّة مغلية بذراع عارية، أحاول استعادة السنوات الطويلة التي مرت على هؤلاء الرجال والنساء الذين احتفوا بطقوسهم اليومية في "مريمين" القرية البعيدة عن العالم، بقيت حتى بداية ثمانينات القرن الماضي يصلها طريق ترابي طوله خمسة كيلومترات سرت عليه وسط العواصف بطريق عفرين – حلب، وفي الشتاء يصبح الوصول إليها معجزة حقيقية وسط الوحول والأمطار الغزيرة التي كانت لا تتوقف طوال الشتاء.
تهمد النار ويبقى القمح المسلوق يغلي في الحلة بصوت مسموع، يقوم صاحب الحلّة الذي ما زلت أتذكره نحيلا، بتغطيتها بأكياس خيش نظيفة، ينتظر نضوجها على جمر الحطب الهادئ.
تقوم النساء بتنظيف السطح للتحضير لنشر السليقة، تُجلب الأواني، تُدعى الصبايا القريبات من العائلة لحمل القمح المسلوق على رؤوسهن إلى السطح حيث الشباب يتناولون منهن الصواني.
بعد إطفاء النار يصطف الأطفال حاملين الأوعية وصحون الجينكو والألمنيوم بالدور للحصول على حصتهم من القمح المسلوق الذي يخلطونه بالسكر ويأكلونه طازجا، ما زالت تلك المذاقات تحت لساني.
الأفضلية للأطفال الصغار الذين يبدلون أسنانهم، تحملهم أمهاتهم يكل فخر ومرح على أكتافهن، في إعلان جماعي عن طقس تبديل الأسنان اللبنية بأسنان حقيقية، يمسك الطفل بالسن المخلوع وينظر إلى الشمس ثم يرميه بقوة مرددا "خدي سن جحش وأعطني سن غزال" وسط بهجة الجميع، ثم يتناول القمح المسلوق المخلوط بالسكر وسط نظرات الإعجاب والدعاء له من قبل العجائز بحياة مديدة سعيدة.
دموع البغل صفراء، والقيظ لا يرحم، نساء يحملن الحبات بغرابيل وينتظرن الهواء لنثرها، تطير قشور القمح بعيدا، هشة وصفراء تفارقنا دون أن نكترث إلى لونها الحزين
أراقب حركة الشباب على السطح، يأخذون "طشوت" النحاس من الصبايا وينثرون القمح المسلوق على السطح، فتقوم الأمهات بفرده بأيديهن لتجفّفه الشمس، ضحكات صبايا وغمزات عشاق، أحيانا يد تلامس يد صبية أو تقرص صدرها في الخفاء، ضحكات مكتومة للعشاق الذين يتغاضى عنهم الجميع تاركين لهم فسحة الوقت والمكان بتواطؤ جماعي كي يعيش الحب، ترسل الفتيات الرسائل لمعجبين ليس لهم حظوظ بالوصول إلى قلوبهن، وتكون هذه الرسالة الواضحة بأن لا تسمح للشاب المعجب أن يأخذ منها الطشت المليء بل تتحيّن فرصة وجود شاب آخر بالدور، فينتهي العاشق المكلوم بمعرفة الجميع يأن تودّده إلى تلك الفتاة قد فشل، بما أسميه "رسائل طشوت البرغل".
يحلّ المساء والتعب بادٍ على الجميع، تقوم أمي بالتهليل للفتيات اللواتي ساعدننا، تدعو لهن بالرزق الوفير والصحة لعائلاتهن، نبدأ أنا وأخوتي وأبناء العمومة بالتسابق على تحريك السليقة على السطح، ترتفع أصواتنا بأحقيتنا في هذا الفعل الذي يجب أن نقوم به يوميا بعد الغروب، بأقدامنا الطرية والنظيفة نفلح السليقة المنشورة على السطح، كي لا تتعفّن، تراقب الأم كل شيء، تحرّك بيدها وتتأكد أن كل الحبات قد جرى تقليبها، وإنقاذها من العفن، بعد أيام يجفّ القمح المسلوق ويُعبّأ في أكياس الخيش بانتظار الجرش.
تُحمل الأكياس إلى "العدسة"، ولها أسماء أخرى، وهي عبارة عن دائرة مبنية من حجر، في وسطها حجر بازلتي كبير دائري، يحرّكها بغل مربوط إليها بذراع خشبية، يدور أربع أو خمس ساعات حتى تصبح حبّة القمح المسلوق عارية بعد انفصالها عن قشرتها، رجل يقف بين البغل والحجر، يحني رأسه حين يمر النير، بيده يدفع حبات القمح تحت الحجر الأسود، دموع البغل صفراء، والقيظ لا يرحم، نساء يحملن الحبات بغرابيل وينتظرن الهواء لنثرها، تطير قشور القمح بعيدا، هشة وصفراء تفارقنا دون أن نكترث إلى لونها الحزين، بعد أيام تمتلئ طرقات القرية وأزقتها بهذا الهباب الذي يشبه الإسفنج، نعفس بأقدامنا ونغطس بإحساس الحرير في الطرقات والأزقة الضيقة.
بعدها يجري تحضير الحبات العارية للطحن اليدويّ على أحجار سوداء صنعت منها طواحين استعملت آلاف السنين قبل تصنيع آلة خاصة لجرش البرغل، ننتظر صاحب الطاحونة بشغف، يقوم أهالي القرية بتسجيل أدوارهم وفي الموعد المحدد تفرد "الشوادر " الكبيرة وأكياس القمح المسلوق، يندلع صوت محرّك "البيتر أو اللستر الإنكليزي"، يغطي قشور القمح أمي وأخواتي وقريباتي اللواتي يعدن لمساعدتنا في المرحلة الأخيرة من صنع البرغل والذي يُنتج منه نوعان، البرغل الناعم المخصص لطبخ الكبة بأنواعها، والبرغل الخشن لبقية الأطعمة، الأطفال لهم حصة من "الكريصة" التي هي عبارة عن بقايا برغل ناعم كالسميد لها طعم لذيذ. تراقبنا الأمهات كي لا نسرف في التهامها لأننا سنمرض حتما في الليلة ذاتها، سيصيبنا المغص، لكن لا أحد يستطيع مقاومة رائحة البرغل الطازج الشهية، حتى لو كنا نعرف أن المرض ينتظرنا ليلا.
قبل تعبئة البرغل في أكياس الخيش يُنقّى من كل القشور، يلتمع كحبات ذهب، تُرسل حصص العائلات الفقيرة سرا إلى منازلها تحت جنح الظلام، كي يباركوا رزقنا وطعامنا، وتُرسل الهدايا إلى منازل فتيات العائلة المتزوجات، كي يعرف الأصهار وعائلاتهم بأننا ما زلنا ندعم فتياتنا بعد زواجهن، بإشارة خفية إلى أن منزل أهل الفتاة يمتلك القدرة على إطعامها وإطعام صغارها.
السوريون يفكرون اليوم أن حتى البرغل أصبح طبقا مكلفا، حيث لا زيت زيتون في بلاد تُصنّف في المركز الرابع أو الخامس عالميا في إنتاجه، والبرغل شقيق زيت الزيتون ومسامير الركب كما كان يُسمّى إشادة به، ويُطبخ في كل الأعياد قرب المزارات لقداسته.
نعم حتى البرغل رحل عن موائدنا. وبقيت قداسته في قلوبنا.