ظهرت أخيراً عن "دار الرافدين" الترجمة العربية لرسائل كافكا الكاملة، إلى خطيبته فليس باور، ترجمة نجاح الجبيلي. الكتاب "رسائل إلى فليس" يقع في أكثر من 800 صفحة، أي أنه الأثر الأدبي الأكثر طولا في أعمال كافكا، ويغطي خمس سنوات من كتابة كافكا للرسائل، من 1912 إلى 1917، مع ملاحظة أن كافكا ربما أتلف رسائل فليس إليه، فلا نعرف طوال الـ 800 صفحة سوى صوت كافكا، الأشبه بمونولوغ معذَّب طويل، يأخذ ضوء الاهتمام كله من صوت فليس القابع في الظلام، والقابل للتخمين. فهو صوت لا يخرج عن كونه صوتا طبيعيا، يُدرك بالكاد القليل من تعقيدات مونولوغ كافكا، وهو مونولوغ آلام لا ينتهي.
فليس، تلك الفتاة البرلينية المتواضعة التي ترغب في الزواج، وتأسيس أسرة، بينما يضع كافكا بينه وبينها عائق الكتابة، ويخونها كل يوم مع كتاباته، وهي لا تفهم هذا النوع من الخيانة. توفيت فليس باور في 1960، وقبل وفاتها بخمس سنوات في 1955 باعتْ، بروح عملية، رسائل كافكا لناشره. كان قد مضى على موت كافكا 31 عاما، وكانت قامته في الأدب العالمي تزداد ارتفاعا. هل فكّرت فليس باور قرب نهاية عمرها أن رسائلها لكافكا فُقِدَت؟ كان يقول لها في رسائله، إنه يحتفظ بأحدث رسالة أو رسالتين منها في جيبه لضمان قربها الدائم منه، وهذا التصريح ينفي أنه قد يتخّلص في المستقبل من كل رسائلها، ربما أنانية كتابته المريرة لا تسمح له باحتمال وجود كتابة أخرى تُعكّر صفو خلوده.
أول لقاء بين كافكا وفليس باور كان في 13 أغسطس/آب 1912 في شقة عائلة صديقه ماكس برود، ولم يرها مرة ثانية طوال الشهور السبعة التالية، ونصف رسائله تقريبا كُتب لها في تلك الشهور السبعة الأولى. ففي 20 سبتمبر/أيلول، أي بعد خمسة أسابيع فقط من لقائهما الأول،كتب لها أول رسالة، يقول فيها: "ربما لا تملكين عني ذكرى بعيدة، لذا أقدم لكِ نفسي مرة أخرى، اسمي فرانز كافكا، وأنا الشخص الذي رحّب بكِ للمرة الأولى في بيت ماكس برود، في براغ، والشخص نفسه الذي سلّمكِ لاحقا عبر المنضدة، واحدة تلو الأخرى،صورا فوتوغرافية لرحلة تاليا".