ضمن قصة الغلاف عن الذكرى الـ33 لغزو العراق للكويت، تنشر "المجلة" رسائل ووثائق بين الرئيس السوري حافظ الأسد والأميركي جورج بوش في نهاية الثمانينات، ساهمت في تحسين العلاقات بين دمشق وواشنطن بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، حليف الأسد.
ومع غزو الرئيس العراقي صدام حسين للكويت في 2 أغسطس/آب 1990 تكثفت الرسائل والاتصالات السورية- الأميركية التي أفضت إلى مبادرة الجيشين السوري واللبناني للقضاء على "تمرد" الجنرال ميشال عون في 13 أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته و"تحييد" قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع.
تنشر "المجلة"، الحلقة الأولى عن تحسن العلاقات السورية- الأميركية. والثانية، عن نفي عون وتحييد جعجع بضوء أخضر أميركي:
كان الرئيس العراقي صدام حسين، الخارج من حربه مع إيران، يقدم الدعم لقائد الجيش اللبناني ميشال عون الذي تصاعد في "حرب التحرير" عندما كانت الحكومة منقسمة بين ميشال عون وسليم الحص، عدو الجنرال.
وكان الرئيس السوري حافظ الأسد، بعد إنجاز اتفاق الطائف في السعودية عام 1989، ينتظر الفرصة للقضاء على "التمرد" بسلاح قواته والجيش اللبناني ودق إسفين بين قطبين مسيحيين: "الجنرال" عون، و"الحكيم" جعجع.
وكان الرئيس إلياس الهراوي الذي أصبح رئيسا بعد اغتيال رينيه معوض، يعادي عون ويؤمن بإمكانية استيعاب جعجع المدعوم أميركيا.
في منتصف عام 1990، كانت الأمور تبدو أنها تميل لصالح صدام وحلفائه. خرج "منتصرا" في حربه ضد إيران حليفة الأسد الذي زاد قلقه من خسارة الاتحاد السوفياتي وتفكك الدول التي تدور في فلكه، في الساحة الدولية.
جاء غزو صدام للكويت في الثاني من أغسطس/آب 1990، ليقلب المعادلات ويخلق فرصة نادرة للأسد ليحشر خصمه "البعثي" في بغداد، وينقض على خصمه الأول في بيروت، عون، وينفيه إلى باريس ثم يكبل لاحقا خصمه الثاني، جعجع، ويذهب به إلى السجن، ويخرج من رياح انهيار الكتلة الشرقية- "السوفياتية". وما كان هذا ليتم لولا صفقة بين الأسد والرئيس الأميركي جورج بوش وقبول من الدول العربية الوازنة.
تكشف سلسلة رسائل سرية، بين الأسد وبوش ومحاضر اجتماعات ووثائق حصلت "المجلة" على نصها وتنشر كاملة للمرة الأولى، تدرّج الموقف الأميركي في دعم مطالب الأسد من اعتماد "الطريقة السلمية" لإنهاء عون و"تنحيه" وصولا إلى الحصول على "الضوء الأخضر" للجيش اللبناني بدعم سوري للقضاء عليه عسكريا في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990، خلافا لموقف فرنسا الداعمة لعون. كما تكشف استمرار واشنطن في دعم جعجع رغم إصرار دمشق على تحييده وصولا إلى سجنه في أبريل/نيسان 1994.
نفي عون وتكبيل جعجع، "هديتان" من بوش إلى الأسد للتخلص من "الجنرال المتمرد"، و"الحكيم المتلاعب"، جاءتا بالتوازي مع قرار الرئيس السوري، بالمشاركة في التحالف الدولي العربي لإخراج قوات صدام من الكويت خلال لقائه الرئيس بوش في جنيف يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1990، إضافة إلى المساهمة في صوغ تفاهمات مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1991. قسم من بعض هذه الرسائل نشر سابقا، لكن "المجلة" تنشر نصوص الرسائل لمواكبة "الرقصة" الأميركية- السورية، دون الخوض في تفاصيل التحالفات والتقلبات اللبنانية والعربية عشية غزو الكويت وغداته.
فيما كان لبنان غارقا في الحرب الأهلية وتقيم فيه القوات السورية منذ 1976، عين الرئيس أمين الجميل عام 1984، عون قائدا للجيش الذي اصطدم بـ"القوات اللبنانية" سنة 1990. ولدى انتهاء ولايته في سبتمير/أيلول 1988، أقال الجميل حكومة سليم الحص وشكل حكومة عسكرية برئاسة عون بعد انسداد أفق انتخاب رئيس جديد. أمام هذا، باتت في لبنان، حكومة في بيروت الشرقية للمسيحيين، وثانية في الغربية للمسلمين. وفي 14 مارس/آذار، أعلن عون "حرب التحرير" لإخراج القوات السورية، وانتقد بكلمات قاسية الرئيس الأسد، وعاد بعض التنسيق مع "القوات" وجعجع.
في أكتوبر/تشرين الأول 1989 أقر في لبنان "اتفاق الطائف" الذي حصل برعاية سورية– سعودية ودعم أميركي، وجرّد رئاسة الجمهورية، المنصب المسيحي الماروني الأول، من صلاحياتها التنفيذية، وأناطها بمجلس الوزراء مجتمعا ورئيسه السني، فعاد الخلاف بين عون وجعجع.
وبعد "اتفاق الطائف"، واغتيال رينيه معوض انتخب إلياس الهراوي رئيسا، فأصبح عون العقبة أمام المرحلة التالية لتنفيذ اتفاق الطائف، واعتبر "متمردا على الشرعية" إلى أن قضي عليه في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990، أي بعد غزو الكويت وقبل حرب الخليج. كيف حصلت سوريا على "الضوء الأخضر"؟ وما الفرق بين عون وجعجع؟ وما الفرق بين موقفي واشنطن وباريس؟
بوش للأسد: عون "عقبة" وحلها سلمي
في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1989، بعث بوش عبر صديقه فيرنان وولترز إلى الأسد رسالة لفتح الحوار بين البلدين، هذا نصها: "عزيزي السيد الرئيس... أعتقد أن الوقت قد حان لنا، لكي نتصل، بصورة أكثر مباشرة. اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن أوسع فكرة العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة. لقد كانت هناك أيضا أوقات تتسم بالمرارة وتبادل الاتهامات. آمل أن يكون الطرفان قد تعلما من الماضي، وأن يستطيعا أن يعملا بصورة أفضل".
وفي وقت كان الأسد قلقا من خسارة حليفه، الاتحاد السوفياتي، قال له بوش: "العالم الذي نعيش فيه يتغير بسرعة، وكزعماء ينبغي لنا أن نعالج الحاضر، ولكن نتطلع إلى المستقبل. أعتقد أن طريقا ما يمكن تلمسه نحو علاقة سورية- أميركية أفضل. إنني راغب لأن أسلك ذلك الطريق إذا كنتم ستسلكونه. تكفي خطوة واحدة منكم، وأنا سوف أتصل شخصيا... أدرك، سيادة الرئيس، أن هناك بعض الخلافات العميقة جدا بيننا، ولكن بالصبر والنية الحسنة يمكننا تضييق فجوة هذه الخلافات، بل وتجاوزها... المخلص لكم، جورج بوش".
موقف باريس من عون، كان أكثر وضوحا، إذ زار المبعوث الفرنسي فرانسوا شير دمشق في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، ونقل رسالة من الرئيس فرانسوا ميتران للأسد بأن عون "عقبة في لبنان" والحكومة الفرنسية تدعم "الاستمرار في اتباع الوسائل السلمية لإقناع عون بالتخلي عن مواقفه".
رسالة أميركية: سفك الدماء يضر الهراوي
بعد توقيع "اتفاق الطائف" في 30 سبتمبر/أيلول وإقراره بقانون في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1989، أبلغ وزير الخارجية فاروق الشرع السفير الأميركي في دمشق إدوارد دجيرجيان في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، أن عون "متمرد ومن حق الدولة التعامل معه على هذا الأساس، وأن عرقلة جهود الدولة في توجهها لإنهاء تمرده يعني استمرار الأزمة والنزيف".
رد السفير الأميركي: "اللجوء إلى القوة سيضر بالرئيس الهراوي كرئيس للوفاق الوطني، كما يضر به إذا انتقل إلى قصر بعبدا بعد سفك الدماء لأنه سيقلل من قدرته على تنفيذ اتفاق الطائف، لذلك فإن حكومتي تريد استخدام كل الوسائل السياسية لحل مشكلة عون". وأضاف: "لدي تعليمات أن أكرر بقوة دعوة حكومتي لسوريا بأن تمتنع عن استخدام القوة العسكرية في لبنان". وعلّق الشرع بأن عون "متمرد وليس جزءا من الوفاق الوطني، هو ضابط في الجيش خرج على الشرعية، أما الوفاق فقد أقامه المجلس النيابي اللبناني".
الأسد لبوش: يجب إزاحته بكل الوسائل
مع اقتراب موعد قمة مالطة بين الرئيسين الأميركي بوش والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف يومي 2 و3 ديسمبر/كانون الأول، بعد أسابيع قليلة من سقوط جدار برلين وإعلان نهاية الحرب الباردة، أبدى الأميركيون تفهما لموقف سوريا والحكومة اللبنانية حول دقة عامل الزمن، وقالوا إن بوش "استجابة لطلب الهراوي سيبحث هذا الموضوع مع غورباتشوف في مالطة".
شجعت دمشق هذا الاتجاه، وطالبت بـ"ضرورة أن يكون البيان الصادر عن غورباتشوف وبوش حول لبنان واضحا جدا، بحيث يتضمن البيان إدانة قوية لسلوك الجنرال عون ومواقفه وأن يتضمن دعما قويا للسلطة الشرعية الجديدة حتى يفهم عون أن عليه الانصياع للسلطة الشرعية الجديدة في لبنان ويتنحى جانبا"، حسب برقية رسمية سورية. ونصت: "صدور مثل هذا البيان الواضح عن غورباتشوف وبوش يساعد كثيرا في التغلب على العقبة الرئيسة، الجنرال عون، بالوسائل السلمية".
في 1 ديسمبر/كانون الأول 1989، بعث الأسد رسالة إلى بوش، هذا نصها: "في إطار التنسيق والتبادل المستمر للآراء... أصبح واضحا للجميع أن عون هو العقبة الرئيسة في طريق تعزيز السلطة الشرعية الجديدة واستعادة وحدة لبنان وتنفيذ اتفاق الطائف. الشرعية اللبنانية واللجنة الثلاثية أكدتا أن عون هو العقبة الرئيسة ويجب إزاحته بكل الوسائل المتاحة".
بوش قبل لقائه غورباتشوف: عون عقبة أعمل على التغلب عليها
وفي 1 ديسمبر/كانون الأول 1989 أيضا، وصلت رسالة من بوش إلى الأسد، هذا نصها: "عزيزي السيد الرئيس، أود أن أشارككم بعض أفكاري حول الوضع في لبنان بينما أستعد للتوجه إلى مالطة بروح رسالتي السابقة لكم... أتى اتفاق الطائف للبنان بأمل حقيقي في الوفاق الوطني والسلام والوحدة، ولن يتمكن معارضوه من إيقاف هذا التطور التاريخي بأعمال مثل قتل رينيه معوض (في نوفمبر/تشرين الثاني 1989).
أقف مع رئيس لبنان الجديد في جهوده لتوحيد شعبه وبداية عملية الشفاء، وقد دعوت جميع اللبنانيين لدعمه، يبقى الجنرال عون العقبة التي أعمل على التغلب عليها، إنني مقتنع يا سيادة الرئيس بأن الطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي من خلال الحفاظ على حكومة الرئيس الهراوي وتقوية الحيوية والإجماع اللذين تتمتع بهما.
اللجوء إلى القوة العسكرية سيزيد من تقسيم لبنان ويسبب الضرر لعملية الوفاق الوطني، بشكل قد يتعذر إصلاحه، نحاول بجميع الوسائل التغلب على معارضة الجنرال عون ولكن القوة- خاصة إذا استخدمت من قبل سوريا- ستعطيه شرعية لا يستحقها وقوة إضافية. أحترم دعمكم لاتفاق الطائف، نستطيع معا تحقيق وعده بالسلام والوحدة لجميع الناس في لبنان، المزيد من سفك الدماء لن يساعد. وفي الختام، دعني أضِف أنني نقلت النقاط ذاتها إلى زميلنا الرئيس الهراوي لأنني أعتقد أنه يمثل أفضل أمل للبنان ليخرج من ظلمته. المخلص. جورج بوش".
بالفعل، تبلغت دمشق لاحقا رسالة خطية، بأن الزعيمين أكدا "دعم الشرعية اللبنانية" دون إدانة عون.
الأسد لبوش: يتشدد... ولا بد من اتخاذ قرار
في 14 ديسمبر/كانون الأول 1989، بعث الأسد رسالة إلى بوش تناولت العلاقات الثنائية وعملية السلام وإيران وأوضاع المنطقة ولبنان، وهذا هو القسم المتعلق بلبنان في رسالة الأسد:
"... أما فيما يتعلق بلبنان، فأود أن أشير إلى ما حققه التعاون بين بلدينا والذي أسهم في نجاح مؤتمر الوفاق الوطني في الطائف وما تلاه من إقرار لوثيقة الوفاق وإجراء انتخابات رئاسية مرتين وقيام المؤسسات الدستورية الشرعية رغم صعوبة الظروف وتعقيداتها التي لا تخفى عليكم...
تعرفون أن سوريا مارست ضغوطا كبيرة على المسلمين اللبنانيين الذين يشكلون سبعين في المئة من سكان لبنان من أجل القبول بالمناصفة في الحكم وبرئيس ماروني، وحجتنا كانت تقوم على أن مثل هذه التنازلات من شأنها استعادة وحدة البلاد وتحقيق السلام...