يا له من عالم سينمائيّ جميل

يا له من عالم سينمائيّ جميل

يحتكم التدبير السينمائيّ المختلف لفيلم "يا له من عالم جميل" للمخرج فوزي بنسعيدي إلى بلاغة جديدة منزاحة عن المتن البصري المغربي السائد؛ بلاغة سوداء لها أنساب في شجرة الكون السينمائي الموسوم بالفيلم الأسود. فمن الكلاسيكيّين المؤسسين: فريتز لانغ، فون ستيرنبيرغ، بيلي وايلدر، أورسن ويلز (في "لمسة الشر")، ألفرد هيتشكوك...، ومن المجدّدين وليام كونراد، روبرت ألتمان، مارتن سكورسيزي، روبرت رودريغيز، ديفيد كرونينبيرغ.

يشرع الفيلم في إبدالاته الخلاقة بالتكسير النمطيّ للرؤية إلى المكان، فالدار البيضاء تبدو مدينة تسكن حلم المخرج أكثر منها التي تسكن الواقع، والتسلّل إلى مناطق الحلم هذه هو إحدى العلامات القويّة لجاذبيته، أمّا أبدع ما يتحقّق في هذه المغامرة البصرية ذات النزوع التجريبي، فهو استنادها إلى اللعب.

غير اللعب اللافت في الفيلم، ثمّة تواتر هارمونيّ للماء، تتخلّق عن لحظات حضوره شعرية خاصّة حدّ أنّني توقّعتُ شخصيّا من خلال تواطئي مع تخييل الماء، أو تمنّيتُ بالأحرى أن يختم الفيلم لحظة موت البطلين المحوريين، القاتل المحترف كمال وشرطيّة المرور كنزة، بسقوط المطر. لم يحدث ذلك إلا في خيالي.

ما يسترعي الانتباه في صدد موسيقى الماء في الفيلم، أنّ المطر يحضر بقوّة ليمهر لحظة انتشاءٍ وابتهاجٍ من جهة، كما يحضر ليمهر لحظة درامية أو مأسويّة من جهة ثانية.

يستند الفيلم إلى وحدتين حكائيتين (بصريتين) أساسيتين، تنفصلان وتتشابكان في آن واحد: الوحدة البصرية الأولى تبدأ من مشهد الشاطئ حين كان القاتل المحترف يرصد عن بعد بمنظارٍ مجموعة من الشباب يلفّون بالدراجات النارية راسمين دائرتين (سيتضّح أنهما ترمزان الى دائرتي الفيلم المتداخلتين) وتنتهي عند مشهد الجمهرة التي تتظاهر في الشارع، المشهد الذي يلي مشهد خروج المصوّر حسن من الأستوديو ليلا وهو يبحث عن المرأتين، إحداهما بالأحرى التي صُوّرت عارية في محترف الأستوديو (فاطمة زوجة العسكري مع كنزة).

الوحدة البصرية الثانية تبدأ من الشاطئ أيضا، مع مشهد القاتل المحترف كمال وهو يلتقط صورا – هذه المرّة عن قرب - بورتريهات للشبّان في الشاطئ، وتنتهي مع المشهد الأخير للفيلم.

في الوحدة البصرية الأولى، وتيرة الوقائع تتمّ بشكل متراسل كأمواج عبر هدوء خادع. وفي الوحدة البصرية الثانية، تتضاعف الوتيرة وتحتدّ، إذ أن الوقائع تصير أكثر اشتباكا وصخبا وديناميّة ودمويّة.

يسترعي انتباهنا أيضا الحضور الدّالّ للرقم 3 في ما يشبه هندسة رياضية وفيزيائيّة في آن واحد، من خلال ثلاث شخصيات نسائية: كنزة/ سعاد/ فاطمة. مثاله المشهد البديع الذي يتماهى فيه رقصهنَّ داخل ليلةٍ حميمةٍ في حضرة ثلاثة زبائن بتدبيرٍ من المومس سعاد، مع رقصة ثلاث نساء في مشهدٍ داخل فيلم هنديّ يشاهده كمال في قاعة السينما في اللحظة نفسها.

باللعب تتحقق متعة المغامرة التجريبية للفيلم الذي لا يفتأ يصدح بأحد أسراره الفاتنة في النهاية: إنما العالم الموسومُ إعجابا بالجميل هو نفسه العالم السينمائيّ المتخيّل في لعبة الفيلم

 

يتماهى الرقم 3 للنساء مع الثلاثة مصاعد داخل المبنى الشاهق الذي تحدث فيه إحدى جرائم القتل. ثمّ يقابل ذلك حضور ثلاثيّ آخر، حرَصَ الفيلمُ على جمع كثافته الدالة من خلال وجود كنزة وكمال وهشام في المكان نفسه، أوّلا في القطار العائد من الرباط، وثانيا في المبنى التجاري الشاهق.

يؤكّد الفيلم جمالية المعرفة التخييلية والحسيّة معا، التي تنشأ في الغياب وليس في الحضور. فجدلية الغياب والحضور تتفاعل على طول الممارسة الدالة والمنتجة لتجربة الحكايات المتقاطعة، من خلال الحكاية الإطار (علاقة كمال بكنزة التي تتمّ عبر الهاتف) ومن خلال الحكاية الصغرى: المصور حسن صاحب الأستوديو الذي ما إن حمّض صور فاطمة العارية بعينين معصوبتين- وهو يتلمّس الصور كما لو يتحسّس طبقات عري جسدها المتخيّل- حتّى ولع بها وخرج يركض خلفها دون جدوى لأنّه لا يعرف شكلها واقعا. وبذا، يتم هوسه بجسد فاطمة في الغياب تخييلا وحلميّا، بل يومئ الفيلم في لقطة على الشاطئ الى رجل معصوب العينين يحيل على شخصية حسن، وكأنه جُنَّ منذ تلك اللحظة، مطلّقا حرفة التصوير من خلال علامة الأستوديو المقفل.

يبدو الاحتفاء بالفوتوغرافيا دامغا في الفيلم، فالتصوير تحترفه أكثر من شخصية بدءا بالقاتل المحترف، والمصوّر حسن صاحب الأستوديو، وهشام سائق الهوندا الحالم بالهجرة إلى أوروبا، والشرطيّة كنزة أيضا لحظة صوّرت فاطمة عارية في الأستوديو... فضلا عن تحويل المدينة إلى ميدان ضخم، تلعب فيه السينوغرافيا دورا شعريا باذخا (إضاءات وانطفاءات اللافتة الإشهارية على سطح العمارة ليلا – يوكو – مثلا).

لا جمال بدون مأساة، والعالم الجميل الذي يلمح إليه عنوان الفيلم، مضمر في تجربة الحكاية، لا مألوف على مقاس أغنية لويس أرمسترونغ الشهيرة "يا له من عالم رائع" التي وُظّفت في فيلم "صباح الخير فيتنام" سنة 1987 للمخرج باري ليفنسون، كما وُظّفت في فيلم كرتوني سنة 2005 تحت عنوان "مدغشقر" للمخرجين إيريك دارنيل وتوم مغراث.

قد يكون العالم الجميل في الفيلم هو زاوية الرؤية الشعرية إلى القبح الذي يسود الحياة اليومية للشخوص؛ قبح لا يروم الفيلم تجميلَه، بل يرسمه بشكل جمالي. أو لنقل إن تجربة استغوار واستكناه طبقات القبح اليومي تفضي إلى اكتشاف جمال خاص يتوارى خلفه، وبالذات ما يتشكّل بصورة محورية في العلاقة الغرامية اللامعتادة بين القاتل المحترف كمال وشرطيّة المرور كنزة.

إن النقطة المركزية التي تتقاطع فيها الشوارع الضخمة، حيث تنتصب الشرطية كنزة لتدبير السير، تتماهى عمليا مع مركزية حضورها في الفيلم، في حين يبدو سطح العمارة الشاهقة التي يسكنها القاتل المحترف كمال، كما لو يتماهى مع رؤيته البانورامية إلى الأشياء، حيث يرصدها بعين باردة من مسافة عمودية.

لكي يضفي الفيلم معنى على منحى سواده، كان لا بد من فعل القتل الذي سيمهر به التجربة الضبابية، شبه الملغزة للحكاية. كأنّ الجمال هنا لا يتحقق معناه إلا بدم يضرّج النهايةَ اللامتوقّعة. فقتل البطلين أو الشخصيتين المحوريتين في الختام يرتهن إلى المنطق السوداوي الخفيّ للعبة الفيلم، إذ أن معترك المصائر المتعدّدة لحيوات الشخصيات يتشابك في اتّجاه حتف ماديّ ورمزيّ في آن واحد.

كلّ شيء محسوب بدقّة في الفيلم، وإن كانت اللذة توازي المنطقَ الرياضي الذي قيست به الإحداثيات، بما فيها علاماتُ أسماء الشخصيات: فالشرطيّة كنزة تكتنز الحضور المركزي إذ تستأثر باهتمام وإعجاب القاتل المحترف كمال، حتى أن الكاميرا تفرد لها لوحات كاليغرافية، ذات عناية خاصّة مفرطة، يمكن أن تكون مستقلّة وحدها، كفيلم داخل فيلم. والقاتل المحترف كمال هو الشخصية الذكورية المهيمنة في مساحات الفيلم، ينتصب كجهة مغناطيسية تجذب إليها أسلاك الحكاية. إنه الكمال الذكوري الرمزي الذي يجعل الشخصيتين النسائيتين تتعلقان به من جهة، وهو الحلقة الأقوى الفاعلة في غواية الحكايات، إذ بدونه يحدث الفراغ المهول في جاذبية القصّة ومعناها. أما المومس سعاد، فهي من تمنح السعادة والابتهاج داخل الصمت الذي يفخّخ الفيلم، من خلال توهّجها الأنثوي، فهي ملاذ الرغبة والجنس للقاتل المحترف كمال، كما هي ملاذ الشرطية كنزة، التي تبوح لها بأشيائها وتؤنس فراغ حياتها الرتيبة، فضلا عن كونها واهبة المتعة الجمالية عبر رقصها الباذخ.

باللعب تتحقّق متعة المغامرة التجريبية للفيلم الذي لا يفتأ يصدح بأحد أسراره الفاتنة في النهاية: إنما العالم الموسومُ إعجابا بالجميل هو نفسه العالم السينمائيّ المتخيّل في لعبة الفيلم.

font change