أفول الشعبويات العربية: الناصرية والفلسطينية مثالا...

أفول الشعبويات العربية: الناصرية والفلسطينية مثالا...

تأخّر صعود "الشعبوية" في البيئات السياسية للمجتمعات العربية، عن مثيلاتها في العالم. إذ ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي، بالتزامن مع صعود الآيدلوجيات القومية واليسارية والإسلامية، ومع تعثر الدولة الوطنية، كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين.

معلوم أن التيارات السياسية العربية تلك نأت بنفسها عن فكرة المواطنة، التي تتأسس على مواطنين أحرار ومتساوين ومستقلين، بنبذها الحمولات الليبرالية، وبتركيزها على ما تعتقده مشاريع كبرى، على حساب المواطن الفرد، وحقوقه وكرامته ومصالحه؛ هذا من جهة.

أما من جهة الدولة الوطنية، فقد نشأت تاريخيا مأزومة، إذ ولدت بعملية قيصرية، من رحم الأنظمة الاستعمارية وعانت التأزّم بين البعدين الوطني والقومي، وبين الشرعية التمثيلية والشرعية الانقلابية وبين علاقات السلطة وعلاقات الدولة، إضافة إلى إخفاقها في التنمية وبناء الدولة والمجتمع، وعجزها عن مواجهة التحدي المتمثل في إقامة إسرائيل.

والحال أن "الشعبوية" نمت في البلدان العربية، على حامل العصبية إزاء الخارج، والاستغراق في السياسة الخارجية، بدعوى مواجهة المشاريع الاستعمارية والإمبريالية والصهيونية، من دون مبالاة، في الأغلب، بالتحديات والمخاطر والنواقص الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي ترتكز على تطوير البشر، والعمران البشري، بحيث لم تنجح لا في مواجهة التحديات الخارجية ولا الداخلية.

لعل أكبر ظاهرة شعبوية عرفتها المنطقة العربية تمثلت في الناصرية، نسبة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي تجاوز في شعبيته حدود مصر، إلى مشارق ومغارب العالم العربي، بفضل كاريزميته، وتملكه روح الخطابة، ولجوع الناس لزعيم، والذي صعد إلى الحكم بواسطة انقلاب عسكري (1952)، وبقي في السلطة 18 عاما (حتى وفاته عام 1970).

بيد أن ذلك الانقلاب أطلق عليه مصطلح "الثورة"، كما غيره من الانقلابات في بلدان أخرى. وبدا عبد الناصر مسكونا بنقل تأثيراته "الثورية" إلى الخارج أكثر من اهتمامه بإحداث نقلة في مأسسة الدولة في مصر وتنمية اقتصادها، وبناء المجتمع فيها على أسس واقعية وعقلانية. وفي الواقع فإن التغييرات "الثورية" التي أحدثها عبد الناصر والتي تمثلت في مجانية التعليم وتوزيع الأراضي على الفلاحين، نجم عنها، أو كان الهدف منها تحجيم الطبقة المتوسطة المهيمنة سابقا وتوسيع قاعدته الشعبية، سيما بين الفلاحين وتوطيد حكم المؤسسة العسكرية، وتمكين الجيش، على حساب الشعب، وعلى حساب المشاركة الشعبية.

الشعبوية" نمت في البلدان العربية، على حامل العصبية إزاء الخارج، والاستغراق في السياسة الخارجية، بدعوى مواجهة المشاريع الاستعمارية والإمبريالية والصهيونية، من دون مبالاة، في الأغلب، بالتحديات والمخاطر والنواقص الداخلية

وفي الخارج تبنى عبد الناصر فكرتي الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، وفق خطاب حماسي وعاطفي، من دون أن يستند في ذلك إلى وجود دولة وطنية قوية، في مجتمع مواطنين، في دولة السيادة فيها للشعب ومن دون الأخذ في الاعتبار تفاوت الأوضاع في البلدان العربية، والأهم من دون مبالاة بغياب المصالح المشتركة وبالمعطيات الدولية غير المواتية، الأمر الذي تمخض عن كارثة، في إحباط فكرة الوحدة العربية، وفي هزيمة يونيو/حزيران (1967). 

طبعا، ليس الغرض هنا تقييم مكانة عبد الناصر، أو صدقيته، السياسية أو الأخلاقية، أو نظافة سيرته الشخصية، فهو في ذلك ككثر من القادة الشعبويين في العالم، مهووسون بمجدهم الشخصي وبسلطتهم الأحادية، من دون ارتباط بمراكمة الثروة أو بفساد شخصي، وإن كانت الأنظمة التي أقاموها ينخرها الفساد، سيما من الطبقة السياسية الحاكمة.

اللافت أن ظاهرة عبد الناصر صعدت في فترة صعود نجم رئيس عربي آخر هو الحبيب بورقيبة، الذي كانت مأثرته تتمثل، في بلده تونس، ليس في الخطابات السياسية والعاطفية والقومية والثورية، وإنما في صوغ قانون أحوال مدنية متقدم، والقوانين التي تحرر المرأة، أو تساويها بالرجل، كما في تحديث التعليم بكل مستوياته، مع كل فرديته، أو دكتاتوريته.

لذا فإن ظاهرة عبد الناصر في شعبيتها الكاسحة، وعاطفيتها الجارفة، بدت كمشكلة لبورقيبة، لم يتمكن من تجاوزها، وربما كانت سببا من أسباب إحجامه عن طرح مشاريع على المستوى العربي، إذا استثنينا خطابه الشهير في أريحا عن فلسطين (مارس/آذار 1965).

المشكلة لم تتوقف عند عبد الناصر، إذ إن خطاب بورقيبة، الذي تحدث فيه عن نبذ العواطف، ودراسة موازين القوى والمعطيات العربية والدولية، في الصراع ضد إسرائيل، أتى، أيضا، بعد انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية، يوم 1/1/1965، التي كانت تتحدث عن تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، وإزالة إسرائيل، والمفارقة أنه أتى قبيل هزيمة 1967، واحتلال إسرائيل لباقي فلسطين، مع شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السورية!

تبنى عبد الناصر فكرتي الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، وفق خطاب حماسي وعاطفي، من دون أن يستند في ذلك إلى وجود دولة وطنية قوية، في مجتمع مواطنين، في دولة السيادة فيها للشعب ومن دون الأخذ في الاعتبار تفاوت الأوضاع في البلدان العربية

على ذلك، فإن الظاهرة الشعبوية الأخرى، التي اكتسحت الوجدان الشعبي العربي، بعد الناصرية، بناء على العواطف أيضا، كانت ظاهرة حركة "فتح"، والكفاح المسلح الفلسطيني، عموما، والتي سرعان ما تبين إخفاقها، وتعثرها، باصطدامها بالواقع العربي، من الأردن إلى لبنان وصولا إلى سوريا، كما بنتيجة عجزها عن تحقيق إنجازات في مواجهة إسرائيل، بدلالة انتهاء ظاهرتها كحركة مسلحة في الخارج إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982).
 
وقد انحسرت تلك الظاهرة، حتى بين الفلسطينيين، بعد تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة على جزء من شعبها، تحت الاحتلال، بنتيجة اتفاق أوسلو مع إسرائيل (1993)، ونكوصها عن روايتها المتأسسة على النكبة وإقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين، إلى رواية تتعلق بإقامة كيان لجزء من الفلسطينيين في جزء من أرض فلسطين (22 في المئة). 

وللعلم فإن بورقيبة، مثلا، كان طرح في خطابه المذكور (1965) التمسك بقرار التقسيم لعام (1947)، كحل تفاوضي، وفق مبدأ "خذ وطالب"، تبعا للتجربة التونسية، الأمر الذي دعاه، بعد سماعه بعقد اتفاق أوسلو، لإيجازه في قوله عبارة واحدة: "متأخّر جدا، وقليل جدا". 
 
ثمة شعبويات أخرى: بعثية، وحزب اللهية، وإسلاموية، ويسارية، لكنها تنازع، إذ باتت مكشوفة، كسلطة تقوم على الاستبداد والفساد، وكجماعات هوياتية مغلقة، ومدمرة لذاتها ولغيرها، فضلا عن أن بعضها مجرد امتداد لمشاريع إقليمية. 

ولعل من أهم مظاهر أفول تلك الشعبويات الموجة الثانية للربيع العربي التي شملت لبنان والعراق، إذ وجدت القوى الميليشياوية الطائفية المسلحة نفسها في صدام مباشر مع ما تفترض أنه جماهيرها، أو مع الطائفة التي تدعي الدفاع عنها وعن مصالحها. 

إذن، الشعبوية ضد الديمقراطية، وهي صنو التسلط، بتلاعبها بمسألة الشعب التي تفترض الوصاية عليه، ومصادرة حرية أفراده، بدعوى حماية الوطن من الأعداء والعزة القومية.
 

font change