تخيّل نفسك في الشارع العام، تسير في هدوء، فيخرج رجل من مكان ما، يرتدي سترة، ليُملي عليك تلك الحركات البسيطة الضرورية اليومية كأنك من كوكب آخر، أو كأنّك طفل يتعلّم أبجديات الحياة الأولى. سيقول لك: سِرْ هكذا، في هذا الاتجاه. توقفْ... التَفِتْ إلخ إلخ. ثم ينتظرك عند ناصية ما، بعد أن تقوم بهذا العمل، ليحصل على مقابل ما قدّمه لك من توجيهات وحركات تحفظها عن ظهر قلب، وتُعيدها مرات عدة في كلّ يوم.
على الرغم من أنّ روايات كثيرة وأفلاما عدة تطرّقت الى مثل هذه المواضيع، إلا أن ما نحكيه ليس مقطعا من رواية أو مشهدا من فيلم سينمائي. الشخصية التي نتكلم عنها حقيقية وموجودة في الشارع المغربي ويسميها العامة "مول الجيلي أصفر" أي صاحب السترة الصفراء. وهو حارس السيارات الذي كان في السابق يمارس مهمة بسيطة، بلا ضجيج، ويعيش في الخفاء، بمهمته المحدّدة في حراسة السيارات داخل المرائب المسيّجة المملوكة للبلدية، وأحيانا يحرس المتاجر وسيارات السكان ليلا في مقابل بسيط، وكانت الصورة الرائجة عنه تُختزل في ملامح رجل تجاوز منتصف العمر، يُخاطبه أهل الدرب باحترام ويسمونه "العم"، يقبل ما يمنحه أصحاب السيارات دون تكلّف كما يقوم بمهام أخرى داخل النسيج الاجتماعي. لكن "الوظيفة" اليوم تبدّلت وتوسّع مجالها فتجاوزت المرائب الرسمية التي تبنيها مجالس الجماعات بمقتضى القانون وتشرّع استعمالها وجباية الأموال على مستخدميها، واتسعت لتشمل مختلف الشوارع والأزقة، في كل المدن، وأصبح يقوم بها شبّان في مقتبل العمر، أغلبهم من أصحاب السوابق. ولأنها مهنة مجانية، لا تكلّف صاحبها شيئا فقد اتسعت حتى ضاق الحال بأصحاب السيارات.
حراسة السيارات، خدمة قديمة، لكنها لم تكن منتشرة بهذا الشكل في كلّ الدروب والأزقة، ولم تكن حالة عامة تسدّ المنافذ على السائقين. لكن نطاقها اتسع خلال السنوات الأخيرة بين الأزقة والدروب وفي كل المدن، يقوم بها أشخاص كثيرون لا أحد يعرف من أين ينبعون ولا من منحهم هذه الصلاحية. إذ يكفي أن تشتري ثوبا متلألئا أصفر وتختار زقاقا أو شارعا فرعيا وتبدأ بتحريك يديك عندما ترى سيارة آتية من أي اتجاه.
ليست هناك خدمة يبيعها صاحب السترة الصفراء، فهو لا يحرس السيارة، لأنه غير مسؤول بموجب القانون عن سيارتك إذا أصابها مكروه في الشارع العام، فأنتَ في كلّ الأحوال ستلجأ إلى الشرطة لرفع شكوى، ولا يمكن أن تستأجر منه مساحة للركن لأن القانون يمنع على كلّ الجهات (بما في ذلك الجماعات المحلية والبلديات) كراء الشارع، فهو فضاء عمومي لا يخضع للتفويت ولا للكراء بمقتضى القانون.