في الأسبوع الماضي، أصدرت "هيئة التبليغ الديني"، التابعة للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، قرارا بعزل 15 رجل دين، باعتبارهم "غير مؤهلين للقيام بالإرشاد والتوجيه الديني والتصدي لسائر الشؤون الدينية والأحوال الشخصية المتعلقة بأبناء الطائفة الإسلامية الشيعية" ووجهت إليهم تهما مثل: "الانحراف العقائدي والانحراف السلوكي"، وغيرهما.
العزل سلاح اعتاد الثنائي الشيعي الحاكم ("حزب الله"، و"حركة أمل") على استخدامه ضد المختلفين في الطائفة، بلا حاجة إلى فتوى أو قرار.
وسبق أن عزل الحزب، دون الاستعانة بالهيئة ولا بالمجلس، السيد محمد حسين فضل الله، لأنه تصدّى للمرجعية، في وقت تربُّع علي خامنئي- الذي شكّكت حوزة قُم في مرجعيته- على كرسي المرشد، عزلٌ وصل إلى حد محاولة الاغتيال، يومها اقتحم منزله في حارة حريك أحد "القادة الشهداء" وهدّده بالرصاص، ليجبره على سحب مرجعيته، لأن الظروف السياسية، في العالم الشيعي، لم تكن تسمح آنذاك، بوجود منافس للمرشد.
السيد علي الأمين، تم عزله مرتين، عزلته الحركة أولا، بسبب رفضه اجتياح بيروت يوم 7 مايو/أيار 2008. موقفه الوطني أحرجها لدى الحزب، فهاجم مسلحون حركيون، منزله في مدينة صور، وأخرجوه منه بقوّة السلاح، وصادروا مكتبته ومحتويات مقرّه في المدرسة الجعفرية، وهو حتى اللحظة، ممنوع عليه العودة إلى بيته وزيارة مدينته. وبعد اثني عشر عاما، عاد المجلس واستخدم رسميا سلاح العزل ضده، فأصدر قراره النهائي بعزله من الإفتاء الجعفري، بتهمة التطبيع مع العدو، على خلفية مشاركته في مؤتمر للأديان، في مملكة البحرين.
الشيخ حسن مشيمش، هو الآخر، كان نصيبه من العزل، قاسيا جدا، انتقد مشيمش عقائد الحزب وفضح سياساته، بعد انشقاقه عنه، فسلّمه الحزب إلى المخابرات السورية، أثناء عبوره الحدود برّا، لأداء مناسك العمرة، حيث تعرّض لشتّى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي في "فرع فلسطين" التابع للمخابرات السورية حيث سحقوا عظامه وعموده الفقري وحطّموا روحه وسمعته، وتشرّدت عائلته في نواحي الأرض، وخسر أمه وتبعها شقيقه.
بعد اندلاع الحرب في سوريا، سلمه الحزب للأمن العام اللبناني، فأُودع في سجن رومية. خرج إلى الحرية بعد أربع سنوات، ويعيش الآن لاجئا في دولة أوروبية، وحيدا وبعيدا عن زوجته وأبنائه.
سبق أن عزل الحزب، دون الاستعانة بالهيئة ولا بالمجلس، السيد محمد حسين فضل الله، لأنه تصدّى للمرجعية، في وقت تربُّع علي خامنئي- الذي شكّكت حوزة قُم في مرجعيته- على كرسي المرشد
أما الهيئة المشكّلة من رجال دين تابعين للحزبين الشيعيين، فقد عزلت في العام الماضي، رجل الدين الشاب السيد حسين الحسيني، إذ أدانته بهتك أحكام الشريعة، وانتحال صفة رجل دين، وحذرت المؤمنين والمؤمنات من مجاراته، وأمرتهم بنبذه، لأنه ظهر في برنامج تلفزيوني، يعزف على آلة موسيقية، ولأنه حوّل بيته إلى مأوى للكلاب الشاردة.
هذه الصورة الرقيقة لرجل الدين، استفزت مشاعر الذكورة لدى المؤسسة الدينية، إذ يجب أن تظل صورة رجل الدين، في وجدان الناس، مزيجا من الغلظة والعبوس والصراخ والتهديد والسبّابة المرفوعة.
هيئة التبليغ، هي أحدث هيئات المجلس، أُنشئت عام 2004، بقرار سياسي، إرضاء للحركة، بعد أن سيطر الحزب على الهيئتين الشرعية والمدنية، من أجل تنظيم الجهاز الديني داخل المجلس، وإدارة شؤون المدارس الدينية في لبنان، وترأسها الشيخ عبد الحليم شرارة (صاحب القرار) لكنه سرعان ما أخرجها عن دورها، وأدخلها في قضايا خارج صلاحياتها.
أبرز الذين استهدفهم قرارها الأخير، الشيخ ياسر عودة. هناك من يقول إن القرار في أصله، اتُخذ من أجل إسكات ياسر عودة، وزُجّ بالأسماء الأخرى لإبعاد الشبهات، ذلك أن ياسر عودة قد بدأ يصبح مزعجا، بل مزعج جدا، للثنائي الحاكم وللمؤسسة الدينية وطبقة رجال الدين، فهو صاحب مواقف ليست مختلفة عن السائد المتداول داخل الطائفة، فحسب، بل متناقضة معه. كل الخرافات الدينية وحتى السياسية، التي تؤمن بها الطائفة الشيعية، يأتي عودة وينسفها في خطبة أو حديث أو برنامج إذاعي، في موسم عاشوراء هذا العام، ساوى بين قتلة الحسين والفاسدين في لبنان، وكرر في إحدى خطبه في مسجد الإمام السجاد في حي السلم (جنوبي بيروت) شعار "كلن يعني كلن" الذي يمقته الثنائي ويحاربه، لأنه يساويه بأحزاب السلطة، التي نهبت البلاد، هو الذي يدّعي النزاهة والمقاومة ومحاربة الفساد.
الشيخ عبد السلام دندش، واحد من المشايخ المعزولين أيضا، هو عادة ما يستخدم المنبر، لكشف المستور والمتستّر عليه في الطائفة، مثلا، في الخطبة الأخيرة، التي ألقاها تعليقا على قرار الهيئة، تفوّه بعبارة، قلة من الطائفة الشيعية، تتجرأ على المجاهرة بها، قال: "السيد موسى الصدر رحمه الله".
فالمجلس والحركة والحزب ضمنا، لم يعلنوا إلى اليوم، وفاة السيد الصدر، مؤسس المجلس والحركة، رغم بلوغه 95 عاما، ورغم مرور 45 عاما على خطفه، وهو في طريقه للمشاركة في الاحتفال بذكرى ثورة الفاتح في ليبيا، ومن المؤكد أنهم لن يعلنوها، لأن قضية الصدر، تشكّل ورقة هدنة بين الحزب والحركة، كما أنها الرئة الوحيدة، التي أبقت الحركة، على قيد الحياة السياسية، بعد أن سحب الحزب، كل المعارك المصيرية والوجودية للطائفة الشيعية، من تحت عباءتها، ونجح في حصرها به.
هيئة التبليغ، هي أحدث هيئات المجلس، أُنشئت عام 2004، بقرار سياسي، إرضاء للحركة، بعد أن سيطر الحزب على الهيئتين الشرعية والمدنية، من أجل تنظيم الجهاز الديني داخل المجلس، وإدارة شؤون المدارس الدينية في لبنان
الشيخ الشاب سامر غنوي، الذي يعمل في مهنة "تلبيس الحجر"، شمله القرار أيضا. وكثيرا ما تعرض غنوي للتنمّر من قبل جمهور الثنائي، لكونه كادحا، عوض أن يكون سلوكه هذا ميزة أو قدوة.
ربما لم تجد "هيئة التبليغ" تهمة تُلبسه إيّاها، سوى أنه يعتاش من عرق جبينه، خلافا للمتعارف عليه في أوساط رجال الدين، لذلك استفزّها أن يخرج من تحت سقفها شيخ "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق"، شيخ "يداه خشنتان" كما ذكر في بيانه الصادر عقب القرار.
هذا النمط من المشايخ، يقدّم مثلا طيبا وواعيا عن رجل الدين، يهبط به من البروج المشيدة، إلى الشارع، إلى مستوى الناس، بعكس إرادة المؤسسة الدينية الشيعية، التي قامت في الأصل، على فكرة الطبقية، وإقامة الحواجز والفوارق بين العامة (التعبير الاحتقاري للناس) ورجال الدين، فحوّلت رجل الدين إلى حاكم بأمره، أما داخل المؤسسة، فظل مجرد موظف مطيع، يتقاضى مقابل طاعته العمياء، راتبا محترما، وينعم بتسهيلات وهبات مادية، وسيارات وبيوت وأملاك وصفقات تجارية.
وكلما تقيّد بأوامر المؤسسة، ترّقى في سلّم القضاء والإفتاء والأحوال الشخصية والوظائف المدنية، ومُنح حرية مطلقة، في تسعيرة عقود الزواج والطلاق وأحكام النفقة والحضانة وحق الرؤية، وسُمح له بالصلاة في المساجد والصلاة على الميت وإقامة ذكرى عاشوراء.
الأمثلة كثيرة، والمساحة المتاحة، لا تكفي لذكر الأسماء كلها، وسرد الوقائع، على أن الخلل ليس في هيئة التبليغ المغمورة، بل في عقلية المتسلّطين على الطائفة، في وجود "شخصيتين مميزتين جدا، لم تأت الطائفة بمثلهما"، في حاكمية ثنائية الفساد والسلاح، في من لم يأتِ إلى السلطة، من واقع "محروم"، بل من واقع جائع للسلطة، ولا يشعر بالاكتفاء، هذا النموذج هو الذي يسيطر على قرار الطائفة الشيعية، هو الذي حوّلها إلى عصابة، ترفع الفارغ لتماهيه وتعزل الحكيم لاختلافه.