لكل حرب طالت أم قصرت نهايةُ لابد منها. تنتهي الحروب إما بتحقيق أحد الطرفين المتحاربين نصرا واضحا يُمكنه من فرض شروطه، وإما بمفاوضات يضطران إليها لعجز أي منهما عن تحقيق مثل هذا النصر.
النهايتان معروفتان في التاريخ. انتهت معظم الحروب في مختلف مراحل التاريخ، حتى الحرب العالمية الثانية، بنصر حاسم لأحد الطرفين. ولم يتحقق مثل هذا النصر في أي من الحروب بعدها، حتى عندما كان ميزان القوى مختلا بشدة حسب المقاييس العسكرية، مثل حروب الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في كوريا وفيتنام وأفغانستان. انتهت هذه الحروب، وغيرها، بمفاوضات بدأت من حيث انتهت المعارك على الأرض. كان موقف أحد الطرفين أقوى في بعض تلك المفاوضات، ولكنه لم يحصل على كل ما أراده. فالعملية التفاوضية مُعقدة، ولا تقتصر مُحدداتها على ما حققه كل من الطرفين في ميدان القتال.
ستنتهي الحرب في أوكرانيا لا محالة إلى مفاوضات. ولكن كلما أمكن تقريب وقت نهايتها، كان أفضل للجميع. ويتطلب هذا التسريع بناء أرضية مشتركة تقوم على رؤية واقعية وتعتمد على قوة دافعة. وهذا ما استهدفته المبادرة السعودية التي لقيت ترحيبا من نحو 40 دولة شارك مسؤولون كبار بها في محادثات جدة في وقت سابق من الشهر الجاري.
تفيد التعليقات التي صدرت عن بعض المشاركين بأن هذه المحادثات هي الأكثر أهمية منذ بدء الحرب في العام الماضي، لأنها حققت بعض التقدم في الطريق الصعب إلى إرساء توافق دولي، عبر تبادل الآراء وتقديم مقترحات. وكان لمشاركة الصين أثر إيجابي ليس في محصلة المحادثات فقط، بل في استعادة اهتمامها الذي بدا أنه كان قد خبا بُعيد إعلان مبادرتها في الربيع الماضي.
غير أن الانتقال من الميدان إلى الطاولة يتطلب وقتا يصعب تقديره، ولكنه قد لا يطول. فقد بات واضحا أن الحسم العسكري مستحيل، وليس صعبا فقط. فلا روسيا تستطيع أن تُحقق نصرا حاسما، وتُرغم نظام الحكم في كييف على الاستسلام. ولا أوكرانيا قادرة على استرداد الأراضي التي احتلتها روسيا منذ فبراير/شباط 2022، ناهيك عن القرم.
لقد وصل الهجوم الروسي في أواخر العام الماضي إلى أقصى نقطة أمكن بلوغها، وأصبح تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة أخرى بالغ الصعوبة. وعلى سبيل المثال احتاجت روسيا إلى نحو 15 شهرا من القتال للسيطرة على مدينة باخموت التي تبلغ مساحتها 41 كيلومتر مربع فقط، وفقدت أكثر من 20 ألف مقاتل وفق ما أعلنه يفغيني بريغوجين في 20 مايو/أيار الماضي قبيل اندلاع أزمة مجموعة فاغنر. ومع بلوغ الهجوم الروسي أقصى مدى، حدث جمود ميداني حاولت أوكرانيا وحلفاؤها استغلاله لشن هجوم مضاد استغرق الإعداد له عدة أشهر، فأُتيحت للقوات الروسية فرصة كافية لتنظيم دفاعاتها، والتخندق بطريقة تجعل تقدم القوات المهاجمة صعبا. وفي الوقت الذي تبقى فيه أوكرانيا بانتظار مساعدات نوعية قد يكون في تزويدها بها مغامرة بتوسيع نطاق الحرب، وهو ما يسعى حلفاؤها إلى تجنبه، يبدو ضعيفا احتمال لجوء روسيا إلى استغلال وجود مجموعة من قوات فاغنر في بيلاروسيا قرب الحدود مع بولندا لفتح جبهة ثانية.
ستنتهي الحرب في أوكرانيا لا محالة إلى مفاوضات. ولكن كلما أمكن تقريب وقت نهايتها، كان أفضل للجميع
ولهذا فلا مفر من التفاوض، رغم أن خطاب كل من الطرفين حتى اللحظة لا يُنبئ بذلك. ولكن الخطابات السياسية متغيرة بطابعها، ومتأثرة دوما بمجريات الأحداث. وهذا ما يجعل احتمال التفاوض قابلا لأن يزداد؛ فلا بديل منه إلا التعايش مع صراع دموي مُجمد ومُرهق للطرفين، لأنه يؤدي إلى استنزاف متبادل بالاعتماد على ضربات بواسطة المُسيرات والصواريخ. وليس صعبا أن نلاحظ سعي موسكو الآن إلى تكثيف محاولات استنزاف قدرات أوكرانيا المتجددة بفعل الدعم الغربي العسكري والمالي والاستخباراتي، ومحاولة كييف مجاراتها بعد أن حصلت على أعداد كبيرة من المُسيرات والصواريخ والقذائف في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
وفضلا عن كُلفة هذا الاستنزاف المتبادل، فقد أصيب الطرفان بإرهاق يسعى كل منهما إلى إخفائه وعدم الاعتراف به. ومن الطبيعي أن يكون الأوكرانيون أكثر إرهاقا، لأنهم الطرف الأضعف. ولكن الحرب أرهقت الروس أيضا عسكريا واقتصاديا وماليا، وبدأت تؤثر في الوضع الداخلي، وخاصة بعد أن اهتز مركز الرئيس بوتين على نحو غير مسبوق بفعل أزمة قوات فاغنر، وتداعياتها التي لم تنته فصولها، فضلا عن الخسائر الاقتصادية والمالية رغم أن مرونة اقتصادها إزاء العقوبات فاقت التوقعات؛ فقد أصبحت روسيا، التي لم تكن قوتها كبيرة، في وضع أضعف من ذي قبل. وعندما يبلغ الإنهاك المتبادل ذروته، سيقتنع كل منهما بعدم جدوى استمرار القتال، ويضطر إلى تليين موقفه الناشف وقبول التفاوض، إذا طُرحت عليهما رؤية واقعية يجدان فيها مخرجا من مأزق يتجهان إليه.
وستكون المفاوضات صعبة للغاية، لأن تقديم تنازلات على المائدة قد يزيد مركز بوتين الداخلي ضعفا، وربما يُطيح بنظام زيلينسكي. ولهذا سيتطلب التقريب بينهما إبداعا دبلوماسيا يُرجح أن لا يكون مستعصيا، حسب ما يُستنتج من طريقة ترتيب محادثات جدة، وما دار فيها.
لقد وصل الهجوم الروسي في أواخر العام الماضي إلى أقصى نقطة أمكن بلوغها، وأصبح تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة أخرى بالغ الصعوبة
ولأن قضية المناطق التي ضمتها روسيا هي الأصعب في هذه المفاوضات، قد يكون أحد المداخل لمقاربتها إجراء استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة. والأرجح أن تأتي نتائج هذا الاستفتاء معبرة عن التركيب السكاني في كل منطقة. وإذ يزيد عدد من يرغبون في الارتباط بروسيا في لوغانسك ودونيتسك وشبه جزيرة القرم، فربما يكفي هذا لكي يقول بوتين لشعبه إن المهمة أُنجزت، خاصة أن ضم هذه المناطق سيصبح مشروعا على المستوى الدولي، وبصفة أخص إن قدم الغرب– بالتوازي مع إلغاء العقوبات– بعض الضمانات الأمنية لروسيا، مثل وقف توسيع "الناتو" الذي وصل فعليا إلى ذروة توسعه بانضمام فنلندا والسويد.
وفي هذه الحالة ربما تؤدي استعادة أوكرانيا منطقتي خيرسوف وزابوروجيا إلى حفظ ماء وجه قيادتها التي لا تستطيع استردادهما عسكريا. ولكن نجاح هذه المفاوضات في تحقيق سلام واستقرار في شرق أوروبا والعالم يتطلب أن تنتهي أيضا إلى خطة بشأن إجراءات لبناء الثقة، واتفاقات للتعاون، وإسهام روسيا مع غيرها من الدول في إعادة بناء ما دمرته في أوكرانيا.