ماذا في إمكان أثر تحدثه رفرفة جناح فراشة أن يفعل بحياتنا الفردية والجماعية؟
قد يتسبّب أمر بسيط بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بأحداث جسيمة تستمرّ آثارها لعقود وأجيال. هذه الحقيقة هي التي دعت العالم الفيزيائي إدوارد لورينتز عام 1963 إلى استخدام "أثر الفراشة" كاستعارة لفظية ليقول إن حدثا بسيطا في موقف عابر قد يمتد ليشمل مستويات أكبر. رفرفة جناح الفراشة تأتي في صورة معرفة شخص، لقاء عابر، كلمة خرجت من فمك دون أن تدري ماذا ستوقع في طريقها، فـ"رب كلمة خرجت من فيك، أقضت مضجع أخيك"، أو بداية عمل، أو قرار إداري غير مدروس أو هفوة في مشروع تجاري، هفوة قد تبدو بسيطة لكنها تُحدث هزّة تضاهي ما تتسبب به الأعاصير والفيضانات، ولذلك يقال إن رفرفة جناح فراشة في الصين قد تتسبب بفيضانات في تكساس! مما يعني أن قدرتنا على التنبؤ محدودة بطبيعتها، وأننا لا نستطيع تفسير كل حدث تفسيرا كاملا إلا من خلال العثور على الأسباب الصغيرة التي تسبقه وإدراك حقيقة أن تداعيات الأحداث وإن كانت بسيطة تؤدّي إلى تغيرات كبيرة على المستويات كافة.
نعم، "أثر الفراشة لا يرى، أثر الفراشة لا يزول"، كما يقول محمود درويش، ومجرد فهمنا ووعينا وإدراكنا لحجم هذا الأثر يمنحنا عدسة جديدة للنظر إلى الأمور تمكننا من إنقاذ الكثير.
لطالما اعتقدنا أن الأحداث التي غيّرت العالم كانت تقف خلفها أسباب عظيمة مثل القنابل النووية، أو الأطماع السياسية، لكنّ الأسباب التي تغير العالم، فضلا عن ذلك كله، وفقا لنظرية "أثر الفراشة"، هي الأشياء الصغيرة
يأخذ أثر الفراشة حيزه الكبير، خاصة في مرحلة التغيرات الجذرية الكبرى، فنحن الآن في عصر "ما بعد الجائحة" ومع هذا لا يزال العالم في مرحلة التشافي من أثر فيروس في الصين هزّ اقتصادات العالم أجمع، ومحليا يعيش المجتمع السعودي تغيرات كبرى ويشهد نموا اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، أما على مستوى العالم العربي فلا تكاد تتوقف الأحداث الجسيمة، من حرب هنا، إلى تهجير هناك... وهذه الأحداث تتطلب قرارات مدروسة تمحص الأسباب وتعي مستويات تأثيرها، وما القرار البسيط سوى لبنة صغيرة تضاف الى سقف يحمي ما تحته، أو عتبة صغيرة تصنع سلّما للمجد.
لطالما اعتقدنا أن الأحداث التي غيّرت العالم كانت تقف خلفها أسباب عظيمة مثل القنابل النووية، أو الأطماع السياسية، أو الزلازل الضخمة، أو الهجرات البشرية الهائلة، لكنّ الأسباب التي تغير العالم، فضلا عن ذلك كله، وفقا لنظرية "أثر الفراشة"، هي الأشياء الصغيرة، فكما يقال "فراشة ترفرف بجناحيها في الأمازون، هي عاصفة تدمر نصف أوروبا".
يحكي التاريخ قصصا كانت أجنحة الفراشة (الأسباب الصغيرة) هي البطل الرئيس في مسرح أحداث دامية لم تُمحَ، ولن، من ذاكرة العالم، ولا يزال أثرها حتى وقتنا الحالي. ففي أوائل القرن العشرين -على سبيل المثل- حين رفضت أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا طلب أدولف هتلر مرتين، حين تقدم هتلر الشاب للالتحاق بمدرسة للفنون، ورُفض، استمر هذا الرفض في تشكيل هويته وتحوله من فنان بوهيمي طموح إلى صورة متجسّدة للشر. لا يسعنا هنا إلا التفكير كيف سيكون التاريخ مختلفا، وكيف أنه كان من الممكن تجنب قدر كبير من المأساة لو أن مدرسة الفنون تلك قبلت هتلر وكرّس نفسه ووقته للرسم لا للحرب.