"مسكّن الألم" يكشف جشع شركات الأدوية الكبرىhttps://www.majalla.com/node/298156/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B3%D9%83%D9%91%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85-%D9%8A%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%AC%D8%B4%D8%B9-%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A8%D8%B1%D9%89
في الحديث عن مهنة الطب، يتبادر إلى الذهن، غالبا، "قَسَم أبقراط"، الطبيب اليوناني الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو قسم أخلاقي تقليدي لا يزال يتعين على الأطباء تلاوته عند التخرج، في مؤشر الى أن هذه المهنة يجب أن تسمو فوق الشبهات والشكوك، وأن تضبطها معايير أخلاقية وإنسانية لا ينبغي انتهاكها، بأي حال، لأن كلّ خرق لهذه المعايير يعني أمرا واحدا هو: فقدان أرواح بشرية.
الواقع أن الأطباء في مختلف الثقافات يحظون بالكثير من التوقير وبالمكانة الاجتماعية المرموقة، فهم يمثّلون أملا لملايين المرضى المحبطين وذويهم الذين يضعون ثقتهم في الطبيب في أكثر اللحظات يأسا. خلافا للمهن الأخرى، فإن لمهنة الطب خصوصية فهي تتعامل مع عجز وضعف البشر الذين يضعون ثقتهم في الطبيب، إذ لا خيار أمامهم سوى الاستسلام لضميره المهني. ووفقا لما جاء في رسالة "أخلاق الطبيب" لأبي بكر الرازي فقد شبّه العلاقة بين الطبيب والمريض بالعقد الأخلاقي، قائلا: "فقد أحسن الظن بك من اختصّك لنفسه واعتمد عليك من جعلك أمين روحه".
شرعت الشركة في حملة ترويج هائلة لهذا العقار، إذ جنّدت العشرات من الفتيات الحسناوات لزيارة عيادات الأطباء وإقناعهم بوصف العقار
لكن هذه الصورة المثالية النمطية للطبيب "الحكيم"، المتفاني في سبيل مرضاه، قد لا تكون دقيقة، على الدوام، بل تتلطّخ نتيجة الجشع، وهذا ما يظهره مسلسل "مسكّن الألم" Painkillerوهو "دراما وثائقية" Docudramaمن ستّ حلقات، تعرضه منصة "نتفليكس"، ويرصد سيرة عائلة ساكلر الأميركية الشهيرة، وخصوصا الطبيب الملياردير ريتشارد ساكلر (يؤدّي دوره ماثيو برودريك) الذي كان رئيسا لمجلس إدارة شركة الأدوية الأميركية (بيردو فارما) Purdue Pharma، التي تعود ملكيتها للعائلة التي راكمت ثروة هائلة من صناعة الأدوية، ولا سيما عقار أوكسيكونتينOxyContinالذي تسبّب في إدمان الكثيرين المواد المخدّرة. ويقدّر بأن نحو 300 ألف شخص ماتوا على مدى العقدين الماضيين في الولايات المتحدة، جراء جرعات زائدة من عقاقير تعطى بوصفة طبية مثل "أوكسيكونتين".
العقار القاتل
"أوكسيكونتين" هو عقار مسكّن للآلام طوّرته "بيردو فارما" عام 1996، وروّجت له على أنه الاكتشاف الأفضل في تاريخ البشرية، لكن بعد تداوله، بصورة قانونية، تبين أنه ليس مجرد دواء لتسكين الألم، بل أفضى الى حالات إدمان، ذلك أن العقار يحوي جرعة عالية من المادّة المخدرة التي تقود خلال أسبوعين من المواظبة على تناوله إلى الإدمان، كما أن أخذ جرعة زائدة منه يؤدّي إلى الموت.
السؤال هنا، إذا كان هذا العقار خطيرا إلى هذا الحدّ، فلماذا رُخّص له رسميا؟ تكشف الدراما الوثائقية، أن الشركة المصنّعة أخفت عن "إدارة الغذاء والدواء الأميركية"، المعنيّة بإعطاء الموافقة على أي دواء جديد، الكثير من المعلومات التي توصّلت إليها في شأن العقار خلال التجارب السريرية. ليس هذا فحسب، بل ثمة تلميح إلى التواطؤ بين الشركة والادارة التي امتنعت لنحو عام عن إعطاء الترخيص لهذا الدواء الجديد، غير أن اجتماعا سريا جرى خلف الأبواب المغلقة، حمل المسؤول الرسمي الرافض على إعطاء موافقته على الدواء "المريب"، كما تروي السلسلة التي لم تستطع كشف ما دار في ذلك "اللقاء السري" الذي دفع المسؤول في الإدارة الأميركية إلى تغيير رأيه من الرفض إلى الموافقة، لكن الاستنتاج المنطقي هو أن ثمة "صفقة مشبوهة" جرت في الخفاء.
هذه الصفقة المشبوهة، لن تكون لها تداعيات جرمية مباشرة، وبالتالي كان من السهل إتمامها، ذلك أن العقار من الناحية الطبية فعّال في حالات معينة كالأمراض المستعصية المزمنة التي تتسبّب بآلام مبرّحة، وكذلك في بعض الحالات الجراحية المعقّدة التي تتبعها كذلك آلام غير محتملة، والتي لا تجدي معها نفعا المسكّنات الخفيفة، غير أن الشركة المنتجة للعقار، وهنا تظهر مسؤوليتها الجنائية، شرعت في حملة ترويج هائلة لهذا العقار، إذ جنّدت العشرات من الفتيات الحسناوات اللواتي يتمتعن باللباقة والظرف كمندوبي مبيعات لزيارة عيادات الأطباء وإقناعهم بوصف العقار حتى للحالات المرضية البسيطة التي لا تتطلّب عقارا قويا مثل "أوكسيكونتين"، وذلك عبر تقديم العديد من الحوافز والمغريات للأطباء.
مكاسب بالمليارات
عرّاب هذه الحملة الترويجية السخية كان الطبيب ريتشارد ساكلر الذي أراد أن يكرّس فكرة أن "أوكسيكونتين" هو أحد الاكتشافات الطبية النادرة في العالم كالبنسلين مثلا، على الرغم من علمه بأضراره الجانبية الجسيمة. وبهدف إزالة أية شبهة أو شكوك حول جشع العائلة التي طمحت لتحقيق أرباح طائلة من وراء بيع العقار، سعى الطبيب ساكلر، بالتزامن مع الحملة الترويجية، إلى تلميع صورة العائلة عبر المساهمة في الأعمال الخيرية ودعم الفنون والمؤسسات الثقافية كالمتاحف وغيرها، وذلك استنادا إلى تصوّر يشرحه ساكلر نفسه في مستهل هذه السلسلة، مفاده أن ألفرد نوبل (1833 – 1896) العالم والكيميائي السويدي اخترع الديناميت القاتل الذي لا يجلب سوى الدمار، لكنه إذ شعر بذنبه، سعى إلى التكفير عنه بإنشاء جائزة للسلام، بقيمة مجزية، وبالتالي فإن العالم يتذكر الآن نوبل بوصفه مؤسسا لأهم جائزة عالمية لا بوصفه مخترعا للديناميت المميت.
على غرار هذا التصور، كان من الصعب التشكيك في جدوى عقار تنتجه عائلة ساكلر الأنشط في الأعمال الخيرية، والأسخى في دعم الأنشطة الثقافية والفنية، فضلا عن أن العقار حاصل على موافقة إدارة الغذاء والدواء، علاوة على أن تجار العقار لم يكونوا سوى أطباء، إذ يكشف الوثائقي تورّط العديد من الأطباء في الترويج للدواء في المؤتمرات الطبية ووصفه لمرضاهم، وانتهاك قسم أبقراط عبر الرضوخ للمغريات والحوافز الكثيرة التي وفّرتها لهم الشركة المصنّعة دون أي مرعاة لصحة المريض.
حقّقت عائلة ساكلر فعليا مليارات الدولارات من بيع عقار "أوكسيكونتين" الذي جلب، في المقابل، المآسي للآلاف بعد إدمانهم إياه، بل أن الكثير من المدمنين حين سمعوا بالعقار راحوا يتصنّعون الألم ويرتادون العيادات طمعا في أن يصفه لهم الطبيب، وبذلك يحصل على مراده من المخدر بغطاء شرعي وقانوني. لكن بعد تفاقم أزمة العقار، وطرح أسئلة في خصوصه في الإعلام، وشكاوى عائلات الضحايا، وجهود المحققة البارعة إيدي فلاورز (تؤدّي دورها أوزو أدوبا) وصلت القضية إلى الكونغرس وأروقة المحاكم لتنتهي عام 2019 بتسوية دفعت خلالها العائلة نحو ستة مليارات دولار كتعويض وغرامات بعدما جنت أكثر من عشرة مليارات دولار من بيع العقار على مدى نحو عقدين.
ولكن هل تحققت العدالة بإدانة هذه العائلة؟ بالطبع لا، ذلك أن الانتصار هنا رمزي، ولن يعيد أية ضحية إلى الحياة. وعلى الرغم من أن هذه السلسلة تغرق في الكثير من التفاصيل ذات الطابع الجنائي وتتحرّى التحقيقات والشكاوى التي قادت العائلة إلى المحاكم، غير أنها لا تغفل عن إظهار الجانب الإنساني المؤثّر لهذه القضية، إذ تسرد جانبا من حكايات أولئك الضحايا وتأكيد أنهم لم يكونوا مجرد أرقام بل كانوا أفرادا لهم أحبة وأقارب، ها هم يسردون على الشاشة، بملامح باكية وبكثير من اللوعة، ذكريات وقصصا مؤلمة عن الفقد والغياب.
شركات صناعة الدواء... والداء
هذه الدراما الوثائقية، وإن كانت تتحدث عن عائلة ساكلر وعقارها القاتل، وهي قضية مهمة في حد ذاتها، غير أنها تلقي الضوء على الكواليس الخفية لشركات صناعة الأدوية العملاقة المتعدّدة الجنسيات، التي تستميت، غالبا، في الدفاع عن مصالح مالكيها، دون أن تكون الغاية الأسمى هي مصلحة المرضى، كما قد يعتقد، ولعل شركة "بيردو فارما"، ما هي إلا نموذج صغير عن تجاوزات وخروقات أوسع نطاقا في هذا الحقل الصحي الحساس.
ففي مقابل الجهود الحميدة التي تبذلها شركات الأدوية، ثمة كذلك صفقات تبرم في الخفاء بين ممثلي تلك الشركات وموظفين فاسدين في الجهات الحكومية تفضي في النهاية إلى الترويج لدواء مشكوك في فعاليته، أو تهميش الأخطار الجانبية له، ناهيك بالتلاعب بالاسعار، واحتكار السوق والمنافسة غير العادلة، فضلا عن توجيه اتهامات إلى بعض الشركات بسبب ممارسات "غير أخلاقية" أثناء إجراء التجارب السريرية للأدوية على البشر، وخصوصا في البلدان النامية.
مختبرات الدول ومؤسساتها الصحية غالبا ما تمرّر تقييمات الشركات وتعتبرها صحيحة، لكونها تتلقّى جزءا من التمويل من شركات الأدوية نفسها
ليس هناك ما هو أسهل من ابتزاز الألم، فالإنسان قد يستغني عن كلّ شيء، لكنه حتما لن يستطيع الاستغناء عن الدواء الذي قد يفتح أمامه بابا للأمل، وهذا ما تدركه شركات الأدوية الكبرى التي يبدو أنها تصنع الدواء والداء معا، وثمة شركات معدودة على مستوى العالم تتحكّم بغالبية التجارة في هذا القطاع، وتعرف بـ"بيغ فارما"، ولا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وهي: العملاقتان الأميركيتان "فايزر" (PFIZER) و"جونسون آند جونسون" (JOHNSON & JOHNSON)، وكذلك شركة "نوفارتس" (NOVARTIS) السويسرية، وشركة "سانوفي" SANOFI الفرنسية التي تبلغ مبيعاتها، مجتمعة، مئات المليارات من الدولارات سنويا، فتجارة الأدوية هي الأكثر من حيث الإيرادات على مستوى العالم بعد النفط والذهب.
هناك أمثلة عديدة عن قضايا خرجت إلى العلن في شأن اتهام هذه الشركات بتقليل أو بإخفاء جزء من نتائج تجاربها السريرية على السلطات الصحية الأممية والمحلية، وهكذا تصل إلى المرضى أدوية لها آثار جانبية خطيرة، ذلك أن مختبرات الدول ومؤسساتها الصحية غالبا ما تمرّر تقييمات الشركات وتعتبرها صحيحة، لكونها تتلقّى جزءا من التمويل من شركات الأدوية نفسها.
من الأمثلة على ذلك، فضلا عن أوكسيكونتين، عقار "دارابريم Daraprim وهو دواء صنّف على أنه ضروري لأنه يعالج الملاريا والعدوى الخطيرة التي يتسبّب بها فيروس نقص المناعة، لكن تبين لاحقا أن هذا الدواء الذي بدأ تسويقه في 1967 كان سببا لمعاناة عشرات الآلاف من الأطفال في أوروبا من التشوّه أو الإعاقة العقلية، وينطبق ذلك على عقار ديباكين (Depakine) الذي أنتجته شركة "سانوفي" دون الإشارة إلى آثاره الجانبية في شأن تشوّهات الولادة ومشاكل النمو، لتضطر الشركة الفرنسية في عام 2015 بعد إثارة الموضوع إلى تضمين علبة الدواء ملاحظة صريحة تقول: يمكن أن يؤذي ديباكين الجنين بشكل خطير إذا تم تناوله أثناء الحمل.