كيف يصبح العراق "دولة ثيوقراطية"؟

كيف يصبح العراق "دولة ثيوقراطية"؟

شكل التصويت السريع لمجلس الوزراء العراقي على تحويل مناسبة "عيد الغدير" إلى "عطلة رسمية" تتويجا لتحولات سياسية بنيوية شهدها العراق خلال السنوات الماضية. وصارت ملامحه تظهرا تباعا وتتمثل في تحول واندفاع النواة الصلبة للنظام السياسي نحو إعادة صياغة العراق، ليكون دولة "دينية/ طائفية" وخاضعا لهيمنة وغلبة النُخب المتأتية من الجماعات والعائلات والقوى السياسية الدينية/ الطائفية عليه، بما في ذلك قدرة هذه الجهات المهيمنة على إعادة صياغة واستبدال البنى الدستورية والسياسية التأسيسية للعراق ونظامه الحالي، "الديمقراطي المدني"! ولو إلى حد ما.

لا يتعلق هذا الحدث، وأحداث أخرى شبيهة به، بأي موضوع أو قضية دينية، بل بنزعة سياسية سلطوية واضحة المعالم، تستولي على آيديولوجيا وسلوك ومخيلة القائمين على القوى والأحزاب المركزية في العراق التي ترى في الدين واستخدامه أداة مناسبة للهيمنة على المجتمع والمؤسسات والوثائق التأسيسية للعراق الحديث، عبر التخلص من إرث ومتطلبات وفروض النظام الديمقراطي/ المدني الحالي، أو بعض الملامح الباقية منه.

فما يجري ليس جزءا من سياق تقليدي، تقوم فيه حكومة دولة ما بمراعاة المشاعر الأهلية لمجتمعها، وتحول احتفالا شعبيا/ دينيا إلى "عطلة رسمية"، بل هو عنصر من سلسلة وقائع متتالية ومتراكمة، تقف سلطة وسطوة ورغبة قادة ونُخب القوى المركزية في الاستيلاء على مختلف عوالم العراق: المؤسسات والمواثيق والقوانين والمجتمعات والحساسيات الأهلية.

في كل جنبات العراق ترى السياسيين وقادة الرأي وصُناع القرار يتسابقون للمشاركة في المناسبات الدينية، الخاصة بالطائفة الغالبة تحديدا، يُظهرون ولاء وارتباطا وخضوعا لطبقة رجال الدين وأدوارهم في الحياة العامة

قرار مجلس الوزراء العراقي يُشكل مؤشرا على ذلك التحول لأسباب عدة: فهذه هي المرة الأولى التي يمر فيها هكذا قرار دون أية معارضة من القوى الثقافية والمدنية العراقية، أو حتى من المؤسسات التشريعية، تحديدا تلك المخولة بالحفاظ على العراق كـ"دولة مدنية"، حسب الدستور. وأيضا لأن هذا الحدث بالذات ليس مجرد "مناسبة دينية"، بل هو جزء تكويني من الاختلاف بين "المرويات الطائفية"، المنقسمة حوله تماما. وتاليا، فإن الإقرار الحكومي هو إعلان "مغالبة طائفية".

هل للدولة الدينية/ الثيوقراطية من تعريف وملامح واضحة مثل جمع الأمرين المحيطين بهذا الحدث: الصمت العام + المغالبة الطائفية، وإن لم تكن تلك معلنة جهرا؛ ففي المحصلة، ثمة سيل متواصل من الأحداث السياسية اليومية في العراق، يدق كل واحد منها مسمارا في نعش "القيم التأسيسية" للدولة العراقية الحديثة بعد العام 2003، من ديمقراطية ومدنية، ويحورها لتكون جاهزة للحظة إعلانه دولة دينية/ ثيوقراطية. 

وفي كل جنبات العراق ترى السياسيين وقادة الرأي وصُناع القرار يتسابقون للمشاركة في المناسبات الدينية، الخاصة بالطائفة الغالبة تحديدا، يُظهرون ولاء وارتباطا وخضوعا لطبقة رجال الدين وأدوارهم في الحياة العامة، حتى خارج اختصاصاتهم العقائدية والروحية. تُقترح وتُقر قوانين منافية للحريات الفردية والمدنية، مثل قانون منع تداول "المشروبات الروحية"، الذي يفرض رأي ديانة وطبقة اجتماعية عراقية ما على ديانة وطبقة اجتماعية أخرى. وثمة تهافت سياسي وبرلماني يومي لصك قوانين تجرم الحريات الجسدية وتخلق قلاع القداسة والتبجيل والفوقية حول الرموز والأماكن ورجال الدين، أو أي شخص قد يدعي ذلك، بما في ذلك القادة والفاعلون السياسيون. وإلى جانبها ابتزاز وجهد أمني ترهيبي وقضائي قصدي زاجر، يتقصد ملاحقة كل المخالفين والمعترضين على هذا السياق، ولو بطريقة غير مباشرة، مثل مقدمي البرامج الكوميدي. 

في المحصلة، هذا قضم من الهيكل التأسيسي للعراق الحديث، وستطيح به كله بالتقادم؛ فالديمقراطية والمدنية والحريات العامة والفردية ليست بداهة في العراق، ولم يُعرف لهذا البلد ومجتمعه تجربة راسخة وواضحة في ذلك الاتجاه، بل يكاد العكس تماما أن يكون هو الصحيح؛ فالدولة الديمقراطية/ المدنية الراهنة كانت بوضوح مشروعا خارجيا، جاء به الجيش الأميركي أثناء حرب عام 2003، وفقط كذلك.

من بين أشياء أخرى كثيرة، فإن ما يحدث في العراق في هذا السياق يقول لنا الكثير... 
من بينها مثلا أن الديمقراطية، بكل توابعها ومؤسساتها ومواثيقها، لا يمكن لها أن تكون قرارا فحسب. ولو عاشت لفترة ما بسطوة ذلك القرار، فأغلب الظن أنها ستنهار ضحية غياب شروطها الأخرى، التي تبدأ بنوعية وعي المجتمعات لذاتها ولما يجمعها من عقد اجتماعي/ سياسي، مرورا بنوعية اقتصادها وتاريخ حداثتها ونوعية التعليم وتشكيلة النُخب، وأشياء أخرى كثيرة، هي فعليا البحيرة التي لا يمكن لسمكة الديمقراطية أن تعيش خارجها.
 

يستعيد المجرى العراقي الحكاية اللبنانية في علاقتها مع الجوار؛ فمثلما كان النظام السياسي الشمولي في سوريا خطرا داهما ودائما على بعض ملامح الحياة الديمقراطية والحريات العامة في لبنان، فإن العراق ليس قادرا على أن يكون مختلفا تماما عن جارته إيران

 كذلك يستعيد المجرى العراقي الحكاية اللبنانية في علاقتها مع الجوار؛ فمثلما كان النظام السياسي الشمولي في سوريا خطرا داهما ودائما على بعض ملامح الحياة الديمقراطية والحريات العامة في لبنان، والتي أُطيح بها في المحصلة، فإن العراق ليس قادرا على أن يكون مختلفا تماما عن جارته إيران، بالذات لمدة زمنية طويلة. فالسيادة المحلية التي أقرها الغرب في معاهدة وستفاليا، ليست أمرا جليا في منطقتنا، تاريخه وحاضره. فالدولة/الجارة، بنظامها السياسي وحساسياتها وحُسن ظنها، لو توفر، عامل قد يفوق بفاعليته حتى الشروط الداخلية لبناء أي نظام ديمقراطي. 

على أن "لياقة النُخب" سبب جوهري في ذلك السياق؛ فبينما يمكن رصد استراتيجية عليا وبعيدة المدى للمنخرطين في أحزاب الإسلام السياسي واستطالاتهم المالية والاجتماعية وحتى الثقافية، كانت ترى وتخطط وتجهد منذ سنوات للنحت في بنيان الدولة الديمقراطية المدنية التي تم صكها في العراق بعد العام 2003، متكاتفة فيما بينها ومتخمة بجهد عقائدي والتزام سياسي وسلوكي لما تسعى لتحقيقه؛ فإن نظيرتها، أي النخب المدنية والديمقراطية، كانت تركن إلى اعتقاد متوهم بأن إسقاط النظام السابق كان حدثا كافيا لأن يتحول النظام السياسي في العراق، ويحافظ على أركان ديمقراطيته، حتى دون بذل أي جهد أو رؤية تعتقد أن الديمقراطية ومتطلباتها إنما هي "نضال دائم"، يمكن لها أن تنهار ببساطة، ما لم تُعزز بجدران الحماية على الدوام. 

أخيرا، فإن التحول العراقي نحو الثيوقراطية هو جزء أصلي من "حصار الزمن" الكلي المحيط بها؛ ففي وقتٍ تنهار فيه قلاع الديمقراطية والقيم السياسية على مستوى العالم، بالذات في البلدان العريقة بتلك المضامين. وفي سياق "البؤس العام" الذي فرزته الأنظمة والمعارضات والمجتمعات نفسها طوال عقد الربيع العربي، فلماذا على العراق أن يكون مختلفا؟! وهو المليء أساسا بكل عوامل الهشاشة، اقتصاده النفطي وتاريخ صراعاته الداخلية، وتقريبا كل شيء آخر داخله. 
 

font change