نمائم مرحة... وعداوات

نمائم مرحة... وعداوات

يبدو لي، أحيانا، أن الأدباء العرب لو كتبوا نمائمهم في بعضهم لأبدعوا وتميّزوا فيها عن كل كتاباتهم الروائية والقصصية والشعرية. فقد استفحلت ظاهرة النميمة بينهم إلى حدّ صار من غير الممكن أن يلتقي اثنان ولا تتضمّن أحاديثهما آخرين يحضرون على نحو ساخر، في أبسط العبارات. أمّا الضغينة والعداوة تجاه الأدباء الآخرين فهما السمتان الغالبتان على أيّ لقاء أدبي.

بالطبع، هناك فرق بين نميمة ونميمة. في اليمن يصفون النميمة بكلمة "حَشْ" و"حشوش"، ولا أعرف هل للكلمة علاقة بالحشيشة أم لا، لكن ما يجمعها بهذه النبتة هو إنتاج السخرية الضاحكة، ولهذا لا يعتبرون "الحشّ" نوعا من العداوة أو الذكر السيئ. فقد تأتي إلى مقهى يجتمع فيه اثنان أو أكثر من هؤلاء الأدباء، فيبادرونك بالقول: "كنّا قبل قليل نحُشْ عليك" مع ابتسامات وضحكات.

الأمر لا يتعلّق بالأدباء الذكور وحدهم. فقد شاءت المصادفة أن أكون بين ثلاث أديبات عربيات في مقهى بمدينة أوروبية، ويومها سمعت ما لا يخطر ببال أحد من نمائم عن الشعراء والروائيين العرب وبعبارات ساخرة تشبه كتابات محمد الماغوط، فهؤلاء المراهقون الكبار لم يسلموا من تعرية الأديبات لهم بأوصاف وقصص تجاوزن معها كل حدود الحياء والأسرار، وأظن أن هؤلاء الأدباء لو سمعوا ما قيل عنهم لتجنبوا حتى قول "صباح الخير" أو "يا عزيزتي" لهن.

في اليمن يصفون النميمة بكلمة "حَشْ" و"حشوش"، ولا أعرف هل للكلمة علاقة بالحشيشة أم لا، لكن ما يجمعها بهذه النبتة هو إنتاج السخرية الضاحكة

كانت لديّ عادة مخاطبة الصديقات والأصدقاء بكلمتي "حبيبتي" و"حبيبي" للتعبير عن عمق المودة التي تجمعنا حتى بقيت محل تفكّه لدى شيخ الصحافيين اليمنيين الراحل صالح الدحان لكثرة استخدامي لهما، لكنني بعد لقائي مع الأديبات الثلاث صرتُ أحرص على عدم استخدام كلمة "حبيبتي"، وإن حدث وأفلتت من لساني، فإنني سرعان ما أتبعها بعبارة "أحبّكِ بالله"، وهي العبارة الوحيدة التي أفادتني من مفتيي التلفزيونات الذين يردّون بها على المستفتيات اللواتي يقلن لهم: نحبّك بالله يا شيخ!

لكن الأحاديث لا تقتصر على هذا المستوى من النميمة المرحة وإنّما تتجاوزها في معظم الأحيان إلى نميمة مكسوة بالعداوة. وهي عداوة لا تتعلق بما يسمّى "المعارك الأدبيّة" التي تؤدّي إلى سجالات تلقّح الأفكار، بحسب أبي حيّان التوحيدي، وعرفتها معظم المجتمعات العالمية وإنّما هي عداوة وتحاسد وسباق على غنائم الجوائز والقرب من السلطة أو نيل الشهرة والسمعة. يعزّز هذا التباغض فكرة التمثيل الأدبي لكل بلد، فهذا الأديب يمثل بلده في مهرجان ما أو في جائزة ما، إذ لم تتفكك هذه الفكرة، في بعض البلدان، إلاّ مع ازدهار الأدب عامة حيث تصبح هناك أسماء كثيرة تمثل الإنتاج الأدبي المحلي.

 فاليمن، مثلا، اشتهرت خلال العقود الماضية بشاعريها المقالح والبردوني حتى كاد كثيرون لا يعرفون أديبا يمنيا سواهما، فيما كانت بينهما عداوة مخفية لا تظهر سوى للأقربين منهما، ولم يكن أحد يتجرأ في الوسط الثقافي على الكتابة عن أحدهما بالنقد، فالبردوني الذي عُرف بمشاكساته الأدبية صرّح في منتصف تسعينات القرن الماضي بأن الجيل الجديد من الأدباء ليس لديهم ثقافة وبالتالي لم نسمع منهم آراء عن الحداثة التي ينتهجونها. وبتشجيع من هذا التصريح قمت بنشر سلسلة مقالات في "الجمهورية الثقافية"، بدأتها بمقال بعنوان: موت القصيدة العمودية! وقد استقبله البردوني بإعجاب مرح، إلا أن البعض من مريديه اعتبروا ما كتبته مساسا بشخص البردوني على الرغم من أنني ذكرته بإعجاب في المقال.

هذا كان في الماضي، أمّا حاليا، فحرب اليمن لم تتح المجال لأي معارك أدبية، سوى تلك الفقاعات الفيسبوكية، وأصبح الجميع مطالبين إمّا بأن يكونوا مع هذا الطرف أو ذاك، ولا قبول لأي نقد أو حياد أو حتى صمت.

حالٌ عرفها كتّاب في معظم بلدان العالم، فالكاتب الفرنسي رومان رولان (1866 -1944)، مثلا، كان يسخر من دعاة الوطنية الذين يجلبون الكثير من المشاكل برفعهم شعارات كاذبة. ولأنه وهو الحائز جائزة نوبل للآداب (1915) وقف ضد الحرب التي، بحسب رأيه، يشعلها ويتاجر بها السياسيون والرجعيون، فقد تعرّض لحملة من الاتهامات وصلت إلى تخوينه.

هناك كتّاب استطاعوا أن يديروا معاركهم الأدبية باقتدار كما فعل بالزاك وفلوبير على الرغم من كل المشاكل المحيطة بهما. الأمر يتعلّق، أولا وأخيرا، برؤية الأديب نفسه للأدب ومكانته فيه

مع هذا، هناك كتّاب استطاعوا أن يديروا معاركهم الأدبية باقتدار كما فعل بالزاك وفلوبير على الرغم من كل المشاكل المحيطة بهما. الأمر يتعلّق، أولا وأخيرا، برؤية الأديب نفسه للأدب ومكانته فيه، أو ما الذي يمكن أن يعمله في إطار كل هذه العلائق.

لهذا، يبدو أن من الأفضل لكل كاتب عدم منافسة آخرين هم في القرب منه، أهل بلده أو لغته مثلا، لكي لا يسقط في وحل يبعده عن عالمه الأدبي.

لكن، إذا كانت لديه نزعة التنافس فليتنافس مع أدباء آخرين، وليكونوا موتى، أو في مكان آخر، من ثقافة، أو لغة مختلفة.

وسيكون من اللافت، مع هذا، أن نقرأ أن أحد الكتّاب لم يكن يقدر على الكتابة الإبداعية إلا إذا كانت صورة الكاتب الخصم أمامه!

font change