أعلن الرئيس السوري بشار الأسد في خطوة مؤثرة الأسبوع الماضي زيادة شاملة في رواتب الموظفين الحكوميين الحاليين والمتقاعدين والعسكريين. وجاء هذا القرار في ظل انخفاض في قيمة الليرة السورية إلى مستوى تاريخي حرج، وصل إلى مستوى مقلق قدره 15,500 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي. وقد فرض هذا الوضع الاقتصادي المُزري ضغطا هائلا على العائلات التي تصارع في وجه التحدي المتمثل في توفير الأساسيات الجوهرية، بما في ذلك الغذاء، والوقود، والدواء، والسكن.
ولكن زيادة الرواتب التي طال انتظارها لم تأتِ بما كان متوقعا من الاحتفال والترحيب، ولا ينبغي لقلّة الحماس تجاه ارتفاع الرواتب أن تشكل مفاجأة، إن نحن أخذنا بعين الاعتبار أنَّ زيادة الرواتب قد تزامنت مع قرار حكومي مواز يقضي برفع أسعار الوقود بشكل حاد، إذ ارتفعت تكاليف الديزل، وهو المادة الحيوية لعمليات النقل وعمل المخابز، بنسبة 180 في المئة، بينما شهد سعر البنزين من النوع العادي ارتفاعا مثيرا للقلق بلغ نحو 165 في المئة.
وأدى هذا الارتفاع المفاجئ في تكاليف الوقود إلى اندلاع سلسلة من ردود الأفعال من قبيل أعمال الفوضى في الشوارع وداخل الأسواق. وبالتالي، وبدلا من إثارة الابتهاج، يُنظر الآن إلى الزيادة الأخيرة في الرواتب على أنها مناورة محسوبة قامت بها الحكومة بهدف إخفاء المصاعب الإضافية المقبلة التي ستجلبها سياساتها بكل تأكيد. وقد أثار هذا التصور غضبا شعبيا متزايدا، وحفّز المظاهرات التي جرت في مناطق محددة يسيطر عليها النظام.
قبل القرار الأخير، كان متوسط الراتب الشهري لموظفي الخدمة المدنية يحوم حول 13 دولارا أميركيا. وفي حين سيتضاعف هذا المبلغ بالليرة السورية، فإن قيمته الفعلية مقابل الدولار تظل غير مؤكدة. فقد كانت الليرة السورية في حالة انخفاض منذ بداية شهر مايو/أيار الماضي، حيث فقدت أكثر من 80 في المئة من قيمتها في هذه الفترة القصيرة، ولا تظهر أي علامات على استقرار سعر صرفها.
قبل القرار الأخير، كان متوسط الراتب الشهري لموظفي الخدمة المدنية يحوم حول 13 دولارا أميركيا. وفي حين سيتضاعف هذا المبلغ بالليرة السورية، فإن قيمته الفعلية مقابل الدولار تظل غير مؤكدة
وقد سجلت الليرة السورية في الأسبوع الماضي فقط أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل الدولار في السوق السوداء، إذ وصلت إلى مستوى 15,000 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد. وأصبح تأمين الطعام لوضعه على المائدة مهمة شاقة أكثر فأكثر بالنسبة للسوريين العاديين الذين يعانون بالفعل من ضغوطٍ مالية. وتُقدر الأمم المتحدة أن كلفة سلة غذائية واحدة بحدها الأدنى شهريا تبلغ 1.35 مليون ليرة سورية (أي حوالي 93 دولارا أميركيا).
وفي الوقت نفسه، كان رفع أسعار الوقود نتيجة لقرار النظام بإزالة الدعم عن البنزين تماما ونتيجة لرفع جزئي للدعم عن زيت الوقود. ونتيجةً لذلك، ارتفع سعر البنزين من 3000 إلى 8000 ليرة سورية، في حين ارتفعت أسعار زيت الوقود [المازوت] من 700 إلى 2000 ليرة سورية.
ومن الناحية النظرية، كان من الممكن تنفيذ هذين القرارين بشكل منفصل، الأمر الذي كان سيسمح لموظفي الخدمة المدنية بالاستفادة من زيادة الرواتب قبل مواجهة التفاقم الناجم عن إلغاء دعم الوقود. ومع ذلك، صرح المسؤولون بأن الحكومة اضطرت لتوقيت هاتين الخطوتين معا من أجل تحرير ما يكفي من الأموال لتغطية زيادة الرواتب. وبالإضافة إلى ذلك، اختار النظام تزامن القرارين، مستفيدا من زيادة الرواتب للتخفيف من صدمة رفع أسعار الوقود.
لكن يبدو أن الاستراتيجية حملت معها نتائج عكسية؛ إذ أدرك الموظفون المدنيون على وجه السرعة أنّ زيادة الرواتب لن تكون كافية لتعويض تكاليف التضخم الناجمة عن ارتفاع أسعار الوقود وتداعياتها المتتالية.
وبالإضافة إلى ذلك، تناقض التأثير الفوري لتغيير سياسة الوقود على نحو حادٍّ مع الفوائد المؤجلة للزيادة في الراتب، والتي لن تكون ملموسة حتى مطلع شهر سبتمبر/أيلول المقبل. وعلاوة على ذلك، لم تُقدّم الحكومة أي مساعدة للمواطنين غير الموظفين الذين لن يستفيدوا من الزيادة في الراتب، ولكنهم ما زالوا مضطرين لتحمل عبء ارتفاع أسعار الوقود.
صرح المسؤولون بأن الحكومة اضطرت لتوقيت هاتين الخطوتين معا من أجل تحرير ما يكفي من الأموال لتغطية زيادة الرواتب
لقد أدى هذا الارتفاع المفاجئ في أسعار الوقود إلى حالة من الفوضى في الشوارع، إذ رفض سائقو سيارات الأجرة والحافلات العملَ، وهو الأمر الذي أدى إلى اضطرابات في وسائل النقل العامة في مناطق مختلفة تقع تحت سيطرة النظام. وعلاوة على ذلك، انتقل التأثير الناتج عن زيادة أسعار الوقود إلى نفقات الغذاء، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ليلي مفاجئ يتراوح بين 30 و100 في المئة.
كما أشعل الإحباط المتزايد من هذا الوضع احتجاجات عمّت جميع أنحاء جنوبي سوريا؛ ففي محافظة السويداء، أُعلن إضراب عام، وأعرب مئات المحتجين عن رفضهم للنظام. وفي المحافظة المجاورة درعا، انضمت عدة قرى إلى المظاهرات. وحتى إن المظاهرات لاقت صدى في جرمانا، الواقعة في ريف دمشق. وأثارت هذه المشاعر دعوات سرية من أفراد في مناطق أخرى تقع تحت سيطرة الحكومة، بما في ذلك المناطق الساحلية، لبدء إضراب عام.
وأوضحت مقابلة الأسد الأخيرة مع "سكاي نيوز عربية" أن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية ليست الحل السحري الذي سيصلح اقتصاد البلاد على الفور. وبالتالي، من المتوقع أن يزيد النظام من اعتماده على أجهزته الأمنية سيئة السمعة لقمع المعارضة باستخدام أساليب قوية.
ومع ذلك، فحتى لو أفلحت هذه الإجراءات في جعل المواطنين يمتثلون لأمدٍ قصير، فإلى متى يمكن أن تُخنق أصوات مئات الآلاف من الأفراد الذين يكافحون لتأمين احتياجاتهم الأساسية في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتضاؤل الدخل؟