ما كان يمكننا أن نتحدّث من قبل عن "عطلة المثقفين" حتى أصبحنا نتحدّث، نحن أيضا، عن "الدخول الثقافي". نعلم أن هذه العبارة نُحتت في أوروبا، على غرار الدخول المدرسي. بل إن رولان بارت يذهب حتى الزعم بأن تحديد العطلة نفسها، بمعناها الحديث، قد تمّ تبعا للعطل المدرسية وبدلالتها. فقد "كانت العطل في البداية حدثا مدرسيا، ثم صارت في ما بعد حدثا عمّاليا، أو على الأقل، حدثا متعلقا بالشغل".
أن يأخذ المثقف عطلة، معناه، أولا، أنه هو أيضا يشتغل، وأنه، مثل جميع فئات المجتمع الحديث، خاضع لإيقاع الإنتاج وقواعده. حتى إن لم يُعترف له رسميا بذلك، فهو يعترف به لنفسه. إنه طرف أساس من الأطراف الذين يدخلون في عملية الإنتاج. والمجتمع الحديث يرى أنه للزيادة في الإنتاج، ينبغي أن يأخذ الأطراف الداخلون في العملية قسطا من الراحة، لا إرضاء لهم أساسا، وإنما إرضاء للإنتاج، ولكي يتمكنوا من استئناف العمل. نكتفي بهذا لكي لا نذهب حتى القول مع ماركس، إنه، حتى ما يتقاضاه العامل، وما قد يلقاه من عناية بصحته وأولاده، وكل ذلك لا يتمّ إلا خدمة للإنتاج وضمانا لاستمراره.
عندما يطمئن المثقفون أنهم يُعتبرون داخلين في مسلسل الإنتاج، يشعرون أن لهم مكانة فعلية في المجتمع، وأنهم من الركائز الأساسية فيه، وأن الأطراف الآخرين يعترفون لهم بذلك. نعلم أن الأمر لا يدوم طويلا، وأن ذلك الاعتراف سرعان ما يخفت ما إن ينتهي "الدخول"، فلا يتبقّى على المثقّف حينئذ إلا أن ينتظر إحدى التظاهرات الكبرى كمعرض الكتاب على سبيل المثل، كي يُنتبه إليه من جديد، ويُطلب منه أن "يعود إلى العمل".
إلا أن هذا "العمل الموسمي" لا يضمن للمثقف استقرار وضعه الاجتماعي، ماديا ورمزيا على وجه الخصوص. والأهم من ذلك، أنه لا يسمح له بالتمييز الفعلي الواضح بين أيام العمل وأيام العطلة، لذا تراه كثير التردّد بين العمل والابتعاد عنه. وغالبا ما يعيش وضعية هشة لا تخلو من مفارقات: فهو، من جهة، يحشر ضمن باقي فئات المجتمع، فينقاد لتقسيماته وإيقاعه الزمني، لكنه من جهة أخرى، يوضع في سماء الفكر، فيبعد عن طاحونة الحياة المادية وما يطبعها من شغل وإنتاج وعمل وعطل.
عندما يطمئن المثقفون أنهم يُعتبرون داخلين في مسلسل الإنتاج، يشعرون أن لهم مكانة فعلية في المجتمع، وأنهم من الركائز الأساسية فيه، وأن الأطراف الآخرين يعترفون لهم بذلك
لا عجب إذن أن يظل المثقف دوما بين - بين. يذهب بارت بهذه البينية مدى أكثر بعدا. فيكتب: "خلال هذه العطلة التي يتقاسمها الكاتب، بروح أخوية، مع العمال ومساعدي المتاجر، لا يكفّ، إن لم نقل عن العمل، فلنقل عن الإنتاج. إنه عامل مقنّع، لكنه أيضا عاطل مقنّع". لا يرى بعض المثقفين تناقضا في ذلك. فإن سألتهم في شأن هذه المفارقة، يردّونك إلى ثنائية النفس/الجسد، الفكر/المادة، منبّهين أنهم أجساد تحتاج إلى راحة، لكنهم أيضا أرواح تكون على استعداد دائم لتلقي إلهامات "شياطينهم".
لو أردنا أن نبتعد عن هذا التفسير بقوة الإلهام، فربما تعيّن علينا أن نرجع مصدر تأرجح المثقف إلى كونه يرتبط أيضا بأشكال أخرى من "الدخول" عدا الدخول المدرسي و"الدخول الثقافي". فهو أقرب إلى إيقاعات دور النشر منه إلى إيقاعات الدخول الأخرى. وبما أن تلك الدور تكون في صدد تهييء "الدخول"، يجد صاحبنا نفسه مجبرا على مسايرة "دخولَين"، والمزج الدائم بين الإجازة والعمل، بين الاستهلاك والإنتاج، حتى وإن اقتصر إنتاجه على "لغو صيف".
إلا أن الغريب في الأمر هو أن المثقف يستفيد من هذا التناقض بين "عطلة منتجة"، و"إنتاج مسترخ". لكنه ربما يستفيد أكثر من طبيعة عصر يجمع في الوقت ذاته بين وضعية تافهة ولدها عصر مغرق في الماديات، وبين "مكانة مهيبة يقرها المجتمع البورجوازي لمثقفيه". كتب بارت: "يقرّ الكاتب، بلا ريب، بأنه قد مُنح حياة بشرية، وإقامة ريفية عتيقة، وأسرة، وسروالا قصيرا، وبنتا صغيرة السن، الخ. إلا أنه، على النقيض من بقية العمال، الذين يتبدلون جوهريا، أثناء عطلهم، ولا يكونون، وهم على الشاطئ إلا مصطافين، يحافظ على طبيعته ككاتب، وعندما يُمنح عطلة، فإنه يستعرض علامة إنسانيته، لكن شيطانه الملهم يظل حالّا فيه. إنه يظل كاتبا تماما كما أن لويس الرابع عشر يظل ملكا، حتى وهو يتغوط فوق كرسيّه المثقّب".
يستطيع المثقّف إذن أن يحافظ، في كل مكان وزمان، سواء داخل مكتبة أو على شاطئ البحر، وسواء أيام العمل أو أيام العطل، على طبيعته كمثقف، فلا ينفك يزاوج بين الإنتاج والتوقف عنه. وكل هذا خدمة لصورته، وتأكيدا لفرادته: "فلا شيء يعرض فرادة مهنة أكثر من مقابلتها بما يضادّها". فكأن المثقفين يسعون بذلك إلى أن يَظهروا مثل الجميع، وبالضبط تميّزا عن الجميع. كل ذلك يقودنا إلى الفكرة نفسها عن المثقف، حتى وإن لم يكن هو ذاته راضيا عنها،إنها فكرة المثقف الذي هو بملامح الإنسان الأرقى، "إنه ضرب من الكائن المختلف الذي يعرضه المجتمع على الواجهة لكي يلعب بشكل أكثر جودة، دور التفرد المصطنع الذي يسنده المجتمع إليه".