حنّا مينة ... 5 سنوات على رحيل شيخ الروائيين العرب

رشّحه نجيب محفوظ لنيل نوبل الآداب

 EPA
EPA
الروائي السوري حنّا مينة

حنّا مينة ... 5 سنوات على رحيل شيخ الروائيين العرب

ولد حنّا مينة في مدينة الإسكندرونة بالساحل السوري عام 1924، سبقته ثلاث بنات، وكانت أمه تعتبره هدية السماء إليها. عاش حياة قاسية في أسرة فقيرة غير متعلمة، بدأ من الصفر فعلا، حيث اضطر إلى ترك الدراسة بعد الابتدائية، وذلك لبُعد المدارس الإعدادية عن قريته، عمل في مهنٍ عديدة فاشتغل عاملا في الميناء وحمّالا وحلاقا، ومساعدا للبحارة، ولكنه كان شغوفا بالقراءة منذ ذلك الوقت، فاستهوته قراءة "ألف ليلة وليلة" وأحبّ عالمها السحري الشيق، انتقلت أسرته إلى اللاذقية وهناك بدأت علاقته بالكتابة متأثرا بما كان يقرأ فكتب مقالات قصصية وعددا من القصص القصيرة، ثم تطوّر الأمر إلى كتابة العرائض الحكومية التي قادته للعمل في الصحافة حتى أصبح له فيها شأن كبير.

ساعده عمله الصحافي في التعرّف إلى عدد من الكتاب والأدباء، إذ عمل مشرفا على الصفحة الأدبية في جريدة "الرأي العام" السورية الصادرة عام 1954 ثم مراسلا لجريدة "المساء" المصرية، حتى ترك سوريا إلى لبنان ومنها إلى الصين ليقضي هناك عشر سنوات، ثم يعود ليعمل في وزارة الثقافة السورية.

ساهم حنّا مينة مع عدد من الكتاب اليساريين في تأسيس "رابطة الكتاب السوريين" عام 1951، كما كان له دور كبير في الدعوة إلى إنشاء اتحاد عربي للكتاب في مؤتمر الإعداد للاتحاد العربي الذي عقد في مصيف بلودان في سوريا عام 1956، وقد تأسّس اتحاد الكتاب العرب عام 1969 وكان أحد مؤسّسيه.

 عمّد مينة رائدا لأدب البحر لاسيما بعد ثلاثيته (حكاية بحّار _ الدقل_ المرفأ البعيد) والتي كتبها بين 1981 و1990 وتناول فيها أحلام البسطاء وحكاياتهم وعبّر عنها بصورة واقعية صادقة


كان لنشأة حنا مينة وحياته قرب البحر أثر كبير في كتابته الأدبية ظهر بجلاء في رواياته. كتب روايته الأولى "المصابيح الزرق" عام 1954، التي دارت أحداثها أيام الحرب العالمية الثانية، ووصفت مقاومة الشعب السوري للاحتلال الفرنسي، وكان تركيزه الأكبر على الصراع الطبقي وبداية نمو الوعي الشعبي بالحراك الاجتماعي وتأثير ذلك على الناس، ثم انتقل بعد ذلك إلى عالمه الأثير، عالم البحر والبحارة في روايته "الشراع والعاصفة" التي تعد نقلة نوعية في أدبه وكتابته، لاسيما أنه كتبها بعد نكسة 1967 وفيها يحكي عن صراع البحّارة اليومي مع أمواج البحر من جهة وما يلاقونه في المجتمع من سيطرة الرأسماليين من جهة أخرى، في الرواية تظهر بجلاء الأبعاد الفكرية الخاصة بتلك المرحلة وكيف أصبح التركيز على دور المثقف وأثره في توجيه المجتمع لمقاومة الفساد والاستبداد، وذلك من خلال شخصية "الطروسي" الذي يسمع صوت البحّارة والصيادين ويشجعهم على استرداد حقوقهم.

انطلقت بعد ذلك مسيرة حنّا مينة  الروائية الثرية وعمّد رائدا لأدب البحر لاسيما بعد ثلاثيته (حكاية بحّار _ الدقل_ المرفأ البعيد) والتي كتبها بين 1981 و1990 وتناول فيها أحلام البسطاء وحكاياتهم وعبّر عنها بصورة واقعية صادقة، وفيها يبرز البحر معادلا موضوعيا لكل التحديات التي يلقاها الإنسان في حياته، إذ يقابل مينة فيها طوال الوقت بين حياة الناس في البر وما يواجهونه فيها من تحديات وبين تلك الحياة الأخرى في البحر والتي تفرض أيضا تحدّياتها.

 

المنفى والعلاقة بالآخر

لم تقتصر كتابة مينة على البحر وإن بقي ملتزما بالتعبير عن البسطاء، ولكن ساعده تنقله بين بلدان العالم من الصين إلى المجر والولايات المتحدة الأميركية وغيرها إلى التعبير عن مجتمعات وثقافات مختلفة، ظهر ذلك جليا في عدد من رواياته، ففي "الثلج يأتي من النافذة" (1969) يعبر عن الغربة في بلدٍ عربي آخر وهو لبنان من خلال مجموعة من الأصدقاء يساعدون بطل الرواية على مواصلة حياته ولكن شعوره بالغربة يسيطر عليه، كما يتناول الغابة في روايته الشهيرة "الياطر" (1972) التي يحكي فيها عن صيادٍ يضطر إلى ترك بلدته بسبب جريمة قتل فيعيش على الحدود بين سوريا وتركيا في منطقة بين السهل والغابة ويعيش حياة صعبة مع راعية تركية، وتتحول الغابة إلى مكانٍ مفارق للمعتاد يحلم به الكاتب لكي يكون بمثابة فردوس أرضي له، ولا شك في أن الشعور بالغربة سيتزايد ويتفاقم في بلدٍ غربي، وهو ما يتناوله مينة في روايات "الربيع والخريف" و"حدث في بيتاخو" التي يعبر فيها عن رحلته إلى الصين، فعلى الرغم من كون تلك الرحلة غير مرهقة ماديا ولكن ثمة علاقة مختلفة بثقافات الآخر وعاداته تتطلّب المزيد من المواجهة، كما نجد تجلّيا أكبر لتلك المشقة والتي تصل إلى حد القطيعة مع الغرب في رواية "حمامة زرقاء في السحب" (1988) حيث ينهش المرض بطلة الرواية التي يسعى والدها لعلاجها في لندن وتتعرف هناك على شابٍ فلسطيني مريض أيضا، وفتاة مع والدتها المريضة، ولكن محاولاته تبوء بالفشل. كما ظهر الصراع بين الشرق والغرب في روايته "النار بين أصابع امرأة" (2007).

 

رواياته إلى السينما والتلفزيون

اقتبس عدد من روايات حنّا مينة  في أعمال سينمائية وتلفزيونية شهيرة، لعل أبرزها مسلسل "نهاية رجل شجاع" (1994) من تأليف السيناريست حسن م.يوسف ومن بطولة أيمن زيدان الذي قام بدور مفيد الوحش (وشارك ابنه سعد في بطولة المسلسل) وهو من إخراج نجدت أنزور ويُعتبر نقطة انطلاق لكل المشاركين فيه.  

EPA
الروائي السوري حنّا مينة

كما حُوّلت روايته "المصابيح الزرق" إلى مسلسل بالعنوان نفسه عرض في رمضان 2012، وكتب له السيناريو والحوار محمود عبد الكريم وشارك في بطولته سولاف فواخرجي وغسان مسعود وأخرجه فهد ميري. 

ونقلت السينما خمس روايات له كلها من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وهي "بقايا صور" عام 1973 بطولة منى واصف وسمير عواد ومن إخراج نبيل المالح، وفيلم"اليازرلي" عام 1974 من بطولة منى واصف وإخراج قيس الزبيدي ، ثم "الشمس في يوم غائم" عام 1985 من بطولة جهاد سعد وغادة الشمعة، وفيلم "آه يا بحر" المأخوذة عن رواية الدقل، وهما من إخراج محمد شاهين، وأخيرا فيلم"الشراع والعاصفة" عام 2011 بطولة جهاد سعد ورندة مرعشلي للمخرج غسان شميط.

تجربتي كلها لمنح الرؤية للناس ومساعدتهم في الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم نحو المعرفة كخطوة أولى في المسيرة الكبرى نحو غد أفضل

حنّا مينة

نالت روايات حنّا مينة العديد من الجوائز الأدبية المهمة في سوريا والعالم، فقد حصل على جائزة سلطان العويس في الدورة الأولى عام 1991، وجائزة الأدب من المجلس الثقافي الإيطالي عن روايته "الشراع والعاصفة" عام 1993 كأفضل رواية مترجمة للإيطالية، وحصل على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2002، وجائزة اتحاد الكتاب العرب في مصر جائزة "نجيب محفوظ للكاتب العربي" في دورته الأولى عام 2006.

وحينما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب عام 1988 سئل عمن يمكن أن يحصل على جائزة نوبل بعده فذكر مباشرة الروائي حنّا مينةـ 

في حوار أجرته القبس الكويتية مع حنّا مينة في 2005 يقول:

"مهنة الكاتب ليست سوارا من ذهب، بل هي أقصر طريق للتعاسة الكاملة، لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني بسخاء، يقال إنني أوسع الكتاب العرب انتشارا، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته ان يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين، وعلى رغم رأي النقاد في محاولاتي الأدبية فإنها بالنسبة إليّ ورقة خريف.

palarchive.org
سميح القاسم ونجيب محفوظ وحنّا مينة في القاهرة.

أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحة وسعادته ولذته القصوى عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين. وتجربتي الأولى في حي 'المستنقع' الذي نشأت فيه بالإسكندرونة مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، كلها لمنح الرؤية للناس ومساعدتهم في الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم نحو المعرفة كخطوة أولى في المسيرة الكبرى نحو غد أفضل".

 

سيرته الذاتية بين المتخيل والواقعي

يُعرف عن كتاب تلك الفترة أن سيرتهم الذاتية تبقى بين سطور رواياتهم، لاسيما تلك الروايات الأولى التي تحمل وهج التجربة وعالمها، إلا أن الأمر اختلف مع حنّا مينة بعض الشيء، فقد أراد أن يعبّر عن نفسه من خلال رواياته مرة ومن خلال الكتابة الصحافية العادية مرة أخرى، فقد وجدنا سيرته الذاتية في ثلاثيته الروائية (بقايا صور _ المستنقع _ القطاف) التي كتبها على فترات زمنية متباعدة (من 1975 حتى 1986)  وفيها نتعرّف على الكثير من مسارات حياته منذ طفولته وحتى ريعان شبابه، حيث استطاع أن يجمع فيها مشاعر الطفولة وأحلامه وقسوة ما لاقاه من معاناة فيها، وسيكتشف القارئ من خلالها أنها كانت المنبع الأول الذي بنى عليه عالمه الروائي كله.

ولكنه بالإضافة إلى ذلك اختصّ رحلته مع الكتابة والأدب بكتابٍ خاص سمّاه "كيف حملت القلم" يعرض فيه منذ الطفولة علاقته بالقلم والكتابة وكيف تشكّلت بطريقة عفوية غير مقصودة، ثم كيف تحوّلت إلى شغف ورؤية للعالم، وفي الكتاب أيضا جزء من ذكرياته مع الكتاب الذين أثروا على نشأته، فيذكر أسماء مثل عمر فاخوري الذي أجرى انعطافا في الأدب العربي بمقالاته في مجلة "الطريق" على حدّ تعبيره والتي تحدث فيها عن الأدب والأديب وضرورة ارتباطه بالواقع والمجتمع وأن يكون "من لحم ودم" ويهجر برج الرومانسية العاجي،  وتحدث عن رئيف خوري ومقالاته التي ترى أن الكاتب يجب أن يكون صاحب رسالة يقدّم من خلال كتابته الجيد والمفيد لمجتمعه من الفن والأدب، وهكذا يقول حنا مينة:

"لقد تعلمت في سن مبكرة أن أكتب عن الناس للناس، أن أكتب عن بعضهم لكلهم، لأنه محالٌ أن يقوى كاتب مهما كانت طاقته ومهما امتدّ به العمر أن يكتب عن الناس كلهم ... ولأن الإنسان لا يستطيع أن يكون إلا ذاته ولأن إبداعه في ذاته المبدعة، فإن زهرة نارية ينبغي أن تتفتح كل يوم، زهرة لا يلوي بها عاصف الريح ولا تيبسها نفثة إبليس... من المستحيل أن تموت كورقةٍ خضراء قطعت من غضنها كلمة الفنان، لأن من تراكمها كنز الثقافة الذي تصير إليه كل الكنوز وكل الثروات إلى نقصان إلاه وحده فهو في زيادة دائمة، نداءالفنان لا يضيع أبدا يبقى برغم عاديات الزمن والمنع والمصادرة داويا".

 

في مرآة النقد

حظيت أعمال حنّا مينة منذ وقت مبكرّ بالعديد من الدراسات والقراءات النقدية لعدد من النقاد والكتّاب على امتداد العالم العربي، فكتب عنه علي الراعي ويمنى العيد ورفيق الصبان وغيرهم، وخصه الناقد صلاح فضل بدراسة تناولت سيرته بشكل موجز في كتابه "أساليب السرد في الرواية العربية" كما قدّم قراءة خاصة لروايته "الولاعة" التي اعتبرها نموذجا للسرد السينمائي، كتب يقول:

"لعل أبرز خصائص الكتابة عند حنّا مينة هو التزامه الأيديولوجي الذي كوّن رؤيته وتحكم في اختياره لمادته السردة من خامات الحياة المبذولة أمامه، ولأن طفولته وصباه ملحمة أليمة من الشقاء والحرمان، ولأنه تعلم بشجاعة فائقة لا يخجل منها بل يصوغها عملا فنيا إنسانيا بالغ الرقي، فإن الخاصية المنبثقة عن هذا الموقف والمتمثلة في الملمح الأسلوبي الأبرز لديه، هي تراجع اهتمامه بالتقنيات الفنية الروائية المحدثة أمام الاستجابه العفوية لمادة الواقع عليه".

 كما تناول الناقد شكري ماضي تجربة حنّا مينة الروائية في مجلة فصول (يوليو 1989):

"إن تجربة حنّا مينة الروائية تشكّل مسارا متكامل الحلقات، كما أن الرؤية الاشتراكية والصراع الطبقي يتجسدان في بؤرة رواياته، وربما تميز عن الروائيين الآخرين في أنه استمد رؤيته الاشتراكية من المعاناة الفعلية على أرض الواقع، وكان أغزر الروائيين إنتاجا وإخلاصا للفن الروائي.

 تجربة حنّا مينة الروائية تشكل مسارا متكامل الحلقات، كما أن الرؤية الاشتراكية والصراع الطبقي يتجسدان في بؤرة رواياته، وربما تميز عن الروائيين الآخرين في أنه استمد رؤيته الاشتراكية من المعاناة الفعلية على أرض الواقع

شكري ماضي

 وإذ يركز حنّا مينة على الصراع الطبقي والبحث عن عالم جديد فإنه يرى أن الإرادة الإنسانية هي الفيصل في تحقيق الآمال وحل الكثير من المشكلات، هو يوضح ما تحتاج إليه الإرادة الإنسانية من عزمٍ وإصرارٍ ووعي، لذلك فإن أبطال حنّا مينة لا تقلقهم القضايا الميتافيزيقية كالدين والله، كما هو الأمر عند بعض أبطال نجيب محفوظ، وإن كانت التقاليد والأعراف تمثل عقبة في طريق ما يصبون إليه".

كما شارك حنّا مينة بنفسه في كتابة رؤى وهواجس حول كتابته الروائية ذكر فيها أن التجديد الذي قدمه للرواية العربية لم يكن في الشكل وإنما في الموضوعات التي تطرق إليها، مشيرا إلى رواياته التي تحدثت عن البحر (في ثلاثيته وغيرها) و الغابات والمعارك الحربية (مثل ما نجد في الياطر والأرقش والغجرية) بل لقد انتقل إلى مجتمعات بلدان أخرى ليقدمها بشكل واقعي وكذلك جبال الثلج وقت جنون العاصفة على حد تعبيره .

أصدرت مجلة "الرياض" كتابا خاصا عنه من إعداد عبد الله أبو هيف (حنّا مينة في مرايا النقد) حوى عددا من الدراسات والقراءات النقدية لمشروعه الروائي والأدبي بشكل عام.

كما خصصت له مجلة "المعرفة" الصادرة عن وزارة الثقافة السورية ملفا خاصا بعد رحيله في 2018 جمعت  فيه مقالات لناشره سهيل إدريس صاحب دار الآداب ومن النقاد ثائر نور الدين وناظم مهنا وغيرهما، بالإضافة إلى ذلك جمع محمد دكروب عددا من حواراته وأحاديثه في كتاب خاص ضمن سلسة "الكتاب الجديد" عام 1992.

قبل وفاته بعشر سنوات كتب حنّا مينة وصيته التي طلب فيها  ألا يبكيه أحد، وألا يقام له حفل تأبين، وأن تكون جنازته بسيطة وعادية كما كانت حياته.

font change

مقالات ذات صلة