لن تكون مناقشة عملة موحدة لـ"بريكس" مدار بحث جدي في قمة المجموعة في جوهانسبورغ الثلاثاء المقبل، خلافا للسائد من أخبار وتحليلات. فالجميع، إنطلاقا من دول الكتلة نفسها، إلى آراء كثير من المحللين والمراقبين، يرى أن الموضوع لم ينضج بعد، ولا يعدو طرحه فقاعة سياسية في وجه الدولار الأميركي، قاهر العملات والدول والأسواق، وأن الظروف المؤاتية لم تتوافر بعد لبحث عملة "بريكسية" بديلة جدية، ولا حتى لوضع إطار عمل جدي في طريق إيجادها على أرض الواقع.
لا يزال التفاوت الصارخ بينّا بين دول الكتلة نفسها، إن من الجهة السياسية من حيث اختلاف أنظمة الحكم والأيديولوجيات والمصالح الأمنية والعسكرية، أو من الجهة الاقتصادية والقوانين المرعية الإجراء في تلك الدول، حيث تهيمن الصين على اقتصاد المجموعة بنسبة تفوق 70 في المئة من ناتجها الإجمالي، وبالتالي سيكون لها القرار الوازن والمتحكم، وهذا ما لا تستسيغه دول المجموعة، الطامحة إلى نظام يختلف عن مبادئ الغرب وعقلية الابتزاز التي تشوبه.
أضف الى ذلك، الجانب المالي والنقدي الجوهري، ولا سيما موضوع المس بالسيادة الوطنية والنقدية لكل دولة، الأمر الذي يمكن أن تفرضه عملة مشتركة تخضع لعوامل وقوى ومتغيرات خارجة عن سيطرة كل دولة ذات سيادة. هذا عدا الحاجة إلى إنشاء مصرف مركزي موحد تكون له صلاحيات تلغي معها الاستقلالية المالية لدول المجموعة، وهو أمر لا ترغب به هذه الدول أو بعضها على الأقل، أبرزها الهند، التي لا يزال صراعها مع الصين قائما، وروسيا.
لا يزال الدولار الاميركي يشكل أكثر من 80 في المئة من التعاملات الدولية، و78 في المئة من عملات التمويل التي يوفرها "بنك التنمية الجديد" نفسه الذي أنشأه تكتل "بريكس" عام 2015
باستثناء تصريح أحادي من ألكسندر باباكوف، نائب رئيس مجلس الدوما الروسي، في أبريل/نيسان الماضي، بأن تأمين العملة الجديدة سيتم بالذهب وبسلع أخرى نادرة، ليس واضحا بعد علام سيتم الاستناد في إصدار عملة موحدة لدعمها وصونها وضمان قوتها في التعاملات البينية، والثقة بها في التجارة الدولية، على غرار الدولار الذي لا يزال يشكل أكثر من 80 في المئة من هذه التعاملات، و78 في المئة من عملات التمويل التي يوفرها "بنك التنمية الجديد" نفسه الذي أنشأه "بريكس" عام 2015 بهدف توفير التمويل بالعملة المحلية للبلد المقترض. علما أن البنك يواجه مشكلة حاليا في جمع الأموال بالدولار لسداد ديونه، في وقت توقف تقريبا عن تقديم قروض جديدة.
حتى التفكير بسلة من عملات المجموعة، يثير التساؤل حول نجاعته، نظرا الى اختلاف التركيبة الاقتصادية والانتاجية لكل دولة، وواقعها السياسي المستقر أو المأزوم، كروسيا الخاضعة للعقوبات الغربية، التي جعلت عملتها الروبل تخسر نحو ربع قيمتها في مقابل الدولار منذ بداية السنة الجارية، و50 في المئة تقريباً، مقارنةً بأعلى مستوى حققته في يونيو/حزيران 2022، مما يضعها بين أسوأ ثلاث عملات أداءً في الأسواق الناشئة بعد الليرة التركية والبيزو الأرجنتيني.
قد يكون تعزيز استخدام العملات المحلية في التعاملات البينية الحل الوحيد الماثل أمام هذه الدول لخفض اعتمادها على الدولار وتخفيف وطأة ذلك على اقتصاداتها. ولعل ذلك ما يدفع كثيراً من الدول، ومنها العربية، ولا سيما مصر، للسعي إلى الانضمام إلى المجموعة، كملاذ يسمح لها بالتنويع في تعاملاتها التجارية بعملات مختلفة تشكل متنفسا لنموها أو لأزماتها، وقد يكون له تأثيره على الأسواق العالمية على المدى الطويل.
يبقى مشروع إطلاق عملة موحدة لـ "بريكس" بمثابة سراب قد يطول تحقيقه، إن لم يكن أمرا مستحيلا، من دون أسس تنظيمية واضحة وانفتاح مالي واقتصادي وسياسي قائم على الحوكمة والشفافية وسيادة القانون وحرية حركة رأس المال، وحقوق الانسان
كذلك، لا تعكس التجارة البينية بين دول "بريكس" نفسها تماسكا اقتصاديا يتيح لها المضي قدما في مشاريع مشتركة قابلة للحياة، على الرغم من استئثار المجموعة بأقل من 20 في المئة من التجارة الدولية. إذ تشير الاحصاءات، على اختلافها، إلى أن التداول التجاري بين دول المجموعة لا يتخطى معدل 10 في المئة.
وقد يكون ضعف التجارة البينية بين دول المجموعة مؤشرا الى استمرار غياب التكامل المالي في ما بينها. وتبدو الصين كأنها تغرد وحدها في تعزيز علاقاتها مع دول الخليج خصوصا، وحجز مكانة لها كقوة عالمية فاعلة لها كلمتها ونفوذها، ليكون الرينمينبي (اليوان) المستفيد الأول في ذلك، بعدما توافقت الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي لاستخدامه في تجارة النفط والغاز. إضافة إلى "بورصة الطاقة الدولية" التي أسستها الصين في شنغهاي منذ عام 2018 لمداولة عقود شحنات النفط بعملتها حصرياً.
يبقى مشروع إطلاق عملة موحدة بمثابة سراب قد يطول تحقيقه، إن لم يكن مستحيلا، من دون أسس تنظيمية واضحة وانفتاح مالي واقتصادي وسياسي قائم على الحوكمة والشفافية وسيادة القانون وحرية حركة رأس المال، وحقوق الانسان خصوصا، والتوافق على ثوابت اقتصادية تحمي الدول الأعضاء، وبالتالي تماسك المجموعة من التقلبات، كمستويات الدين العام، وعجوزات الموازنة، ومعدلات التضخم والفائدة، وضوابط سعر العملات المحلية. ومن دون هذه الثوابت الآنفة الذكر، وفي ظل حالة التشرذم بين دول "بريكس"، لن يجدي انضمام دول جديدة إلى المجموعة، ذات التأثير الاقتصادي القوي، في إنجاح مشروع كهذا.
"بريكس" كفكرة أميركية استثمارية
فلنعد إلى الوراء قليلا، ولنتذكر أن "بريكس"، أبصرت النور عام 2001 قبل انضمام جنوب أفريقيا إليها، كفكرة أطلقها مصرف الاستثمار "غولدمان ساكس" (الأميركي) للفت الانتباه إلى معدلات النمو القوية في البرازيل وروسيا والهند والصين آنذاك، كخيار متفائل للمستثمرين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. لم تتوان الدول الأربع عن تلقف الفكرة والبناء عليها حيث التقت مصالحها وتحدياتها على السواء. تلك الفكرة التي ولدت من دون رؤية أو تخطيط (على غرار عملة اليورو مثلا)، لا تزال تجرجر ذيول المصادفة، ولم تنجح حتى الآن في تثبيت قدميها كقوة متراصة إلا بالإسم. وحتما لا يكفي قياس تأثيرها الاقتصادي العالمي من دون النظر إلى متانتها ككيان. وهي لم تعد تشكل خيارا استثماريا إلى حد كبير بسبب التغيرات الجيوسياسية والمسارات الاقتصادية المختلفة للدول الأعضاء.
والى حين حدوث متغيرات دولية كبرى، يبقى الحديث عن عملة مشتركة "بريكسية" ضربا من الخيال وأضغاث أحلام حتى الآن.