ما من مهتمٍّ بالموسيقى الكلاسيكيّة أو قارئ على الأقل لفيلسوف الموسيقى فريديريك نيتشه يسمع اسم فاغنر الذي بات يتردّد بإفراط في نشرات أخبار اليوم، ولا يعنُّ في باله الموسيقيّ الألماني ريتشارد فاغنر.
قبل فاغنر الموسيقي الملمع إليه أعلاه، كانت شخصية فاغنر أخرى معروفة شعبيّا في ألمانيا نفسها وهي تخييلية في التراث الحكائي الألماني، إذ هو التلميذ المتفاني لفاوست هذا الذي باع نفسه للشيطان كي يمكّنه من المعرفة الكاملة، وقد تبلورت شخصية فاوست ذاتها أكثر وأعمق على نحو شعريّ وفلسفيّ في مسرحية غوته "فاوست"، بتوظيفٍ إبداعيّ مبتكر خرج بصوغه الحداثي لهذا الموروث إلى الكونيّة. وفي المسرحية ذاتها يغدو فاغنر نموذج المتحذلق علما، لموهبته في استظهار أمّهات الكتب بلغة فخمة.
من اللافت أن تكون العلاقة بين اسم الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر وزعيم العصابة الروسيّة فاغنر قائمة فعلا وليست محض مصادفة، إذ الرجوع إلى مصدر تسمية مجموعة الحرب الروسية هذه يكشف عن القصدية وراء ذلك، بدءا من مؤسسها الضابط الروسي السابق ديمتري أوتكين عام 2014 ولاحقا مع مموّلها المدعو يفغيني بريغوجين ذي السوابق السجنية إثر سلسلة جرائم السرقة والنصب والاحتيال، وقد صار بقدرة قادر صاحب مطاعم مرموقة، بل وأمسى ملقّبا بـ"طبّاخ بوتين".
كيف لعصابةِ حربٍ روسيّة أن تُطلق اسم الموسيقي الألماني الكلاسيكي الذائع الشهرة ريتشارد فاغنر على مجموعتها القاتلة؟
ريتشارد فاغنر الذي عُدّ في فترة سوداء موسيقيّا نازيّا بحسب تأويلات شاعت في النصف الأول من القرن العشرين، خاصة موقفه المعادي للسامية، وكذلك انحيازه المطلق إلى حرب ألمانيا ضد فرنسا عقب أحداث كومونة باريس وسخريته في مقال صاخب من هزيمة الباريسيين. وأيّا كانت طبيعة هذه التأويلات، واقعيّة أو محض تلفيق واتهام، يكفي أنّ موسيقى الرجل طالما استفزّت اليمين في فرنسا ومُنعت في إسرائيل.
مع أنّ زمن الموسيقي ريتشارد فاغنر سابق بفترة على نشوء النازيين فوصمة النّازية صارت أكثر لصقا به بالنظر إلى أنّ هتلر كان معجبا بموسيقاه ولا يسمع سواه
مع أنّ زمن الموسيقي ريتشارد فاغنر سابق بفترة على نشوء النازيين، صارت وصمة النازية أكثر لصقا به بالنظر إلى أنّ هتلر كان معجبا بموسيقاه ولا يسمع سواه، بل من مفضّليه حدّ الهوس، الى درجة جعل منه رمزا موسيقيّا للنازية الكاسحة بسبب عداء فاغنر لليهود، خاصّة بالاستناد إلى مقاله الناري، "اليهودية في الموسيقى"، الذي يحتقر فيه تراثهم الموسيقي المنعوت وفق نظره بالانحطاط. فاليهودي كما يرى لا يستطيع إلا أن يقلّد.
المفارقة إذا، أنّ روسيا الآن، الاتحاد السوفياتي سابقا، كانت مستهدفة من النازية الألمانية، بل دافعت عن نفسها إثر الهجوم الشرس الذي شنّه هتلر عليها ضمن حرب شعواء خرج منها هذا الأخير مهزوما بسبب عوامل طبيعية أكثر منها بشرية أو مادية، والفضل برمّته يعود الى فداحة الثلج. كيف يسمي مؤسّس هذه المجموعة التي طفت إلى السطح هذه الأيام عصابته باسم موسيقيّ يتمثّل عدوّا في الأمس القريب؟
لا شيء اعتباطيّا، إذ يتعلق الأمر بشركة عسكريّة خاصّة لها أرشيف دمويّ في المعارك الحاسمة بالوكالة، في شتّى بؤر النزاعات المحتدمة (جزيرة القرم، سوريا، ليبيا، مالي، أفريقيا الوسطى، أوكرانيا، النيجر...) ممّا يبرّر التوصيف المسبق لها بـ: جيش بوتين الظل.
كيفما كانت الفرضيّات الخفيّة لتسمية هذه المجموعة بفاغنر الموسيقيّ، على الرغم من المفارقة المشار إليها آنفا، فالزجّ بالموسيقي الألماني مرة أخرى في إيديولوجيا الحرب لافتٌ ومريبٌ، مع أنّ موسيقى فاغنر الإنسانية منزّهة من هذا النزوع الدموي!
قد نسلّم بأنّ مواقفه الشخصيّة ومقالاته العدائيّة خاصّة وراء هوس هؤلاء القتلة به، لكن موسيقاه شيء، ومواقفه الأخلاقية شيء، اللهم إذا غضضنا البصيرة عن هذا الفصل بين الشخص كموقف أخلاقي وبين عمله الفني، وطابقنا بينهما حدّ التماهي الذي لا يقبل الانفصال. وليكن، في حالة هتلر يبدو اعتناقه لفاغنر كرمز موسيقي للنازية مقبولا نسبيّا بالنظر إلى معاداتهما معا للسامية من جهة، وبالنظر الى قوميتهما الألمانية الواحدة من جهة ثانية، أمّا في حالة المجموعة الروسية الطارئة فالمسألة يعتورها التناقضُ الصارخ!
في العودة إلى شخصية فاغنر التخييلية في مسرحية "فاوست" لغوته، فقد كان التلميذ المخلص، المهووس بالعلم المحفوظ في أمهات الكتب، المولع بالخطابة، الذي أنقذ فاوست من اليأس، هذا الذي باع نفسه للشيطان، وليس من باب الإسقاط أن نجنح بالتأويل مع الكثير من التحوير، أن يتشارك فاغنر الموسيقي مع فاغنر مسرحية غوته في تَمَثُّل رمزية هذا النوع من الرفقة التحريضية أو الشعاراتية بالنسبة الى الحالتين المفارقتين المعاصرتين: الهتلرية والمجموعة الروسية معا.
هكذا أمسى فاغنر الموسيقي بقدرة قادر عدوّا للموسيقي موزارت وفق حرب الاستعارات المندلعة بولادة قيصريّة عن إيديولوجيا الصراع العسكري بين القطبين الروسي والأميركي
هذه الأخيرة يُطلق عليها اسم الأوركسترا أيضا، وفي نعتٍ مواز يُطلق على أفرادها الموسيقيّون، بالنظر إلى التناغم المحكم بينهم في أداء المهام القتالية على ناصية الجبهات الدموية، وبذا يتعزّز معجم الحرب ونزوعها الإجرامي باحتواء المزيد من فضائل الموسيقى والكلاسيكية الرفيعة منها بالذات. الأمر لا يقف عند هذه الحدود، إذ من السخرية السوداء على المحكّ الآخر، أن يُقْدِمَ جناحٌ من الضباط الأميركيين على تأسيس مجموعة عسكرية أوكرانية مضادة، أطلقوا عليها اسم الموسيقي النمساوي موزارت، بغرض مقاومة الهجوم الروسي على أوكرانيا بشكل عام، ولكن في إشارة واضحة الى القتال والصمود ضدّ مجموعة فاغنر بشكل خاصّ.
هكذا أمسى فاغنر الموسيقي بقدرة قادر عدوّا للموسيقي موزارت وفق حرب الاستعارات المندلعة بولادة قيصريّة عن إيديولوجيا الصراع العسكري بين القطبين الروسي والأميركي.
كيفما زُجَّ بأسماء كبار الموسيقى عبر الأزمنةِ من طرفِ هؤلاء، عن حماقةٍ أو عن حذاقةٍ، فلن تستطيع إيديولوجيا القتل الشعواء احتواءَ لا نهائيّة فضيلتهم الموسيقيّة الرفيعة لصالح مستنقع بشاعة الحربِ وهذا ما تصدح به دروس التاريخ الفارزة.