في لقاء أجرته مجلة "ذا هوليوود ريبورتر" مع المخرج كريستوفر نولان، ضمن سلسلة "طاولة مستديرة"، سأله المحرّر: "ما وظيفة المخرج؟". سؤال مهم وكبير في مساحاته وردوده، إذ هناك أكثر من جواب محتمل عنه، والعديد من الإيضاحات المحتملة. لكن نولان اكتفى برد بسيط لم يكن متوقعا إذ أجاب: "ضمّ الصور بعضها إلى بعض فحسب".
الندوة جمعته مع عدد من المخرجين المعروفين، منهم البريطاني مايك لي والأميركيون أنجيلا جولي وريتشارد لينكلاتر وبانت ميلر، وكلهم توقعوا إجابة طويلة تفي بخبرة مخرج انطلق مختلفا في درب السينما وتابع هذا الدرب إلى يومنا هذا.
اليوم، ومع عروض فيلم نولان الجديد، "أوبنهايمر"، الذي تداوله مئات النقاد حول العالم، تبدو المسافة متعدّدة الجوانب بين أول فيلم اشتهر به، Memento (تذكارات، 2000)، وبين هذا الفيلم. فـMemento يبدو أصغر أعماله في مقابل "أوبنهايمر" بضخامة إنتاجه. هذا على نحو عمودي. أما على نحو أفقي، فإن "ميمنتو" و"أوبنهايمر" متصلان برابط متين يتّضح حين نلاحظ أن الأول تحدّث عن رجل (غاي بيرس) يعيش تحت وطأة ذاكرة قصيرة الأمد في الوقت الذي يحاول فيه معرفة من قتل زوجته. السيناريو، كما وضعه كريستوفر نولان عن قصة قصيرة لشقيقه جوناثان، جرى ترتيب أحداثه بتزامن غريب ومثير: إعادة سرد الأحداث من آخرها وصولا إلى أولها (الاتجاه المعاكس لكل فيلم آخر في التاريخ). بينما لا يعمد "أوبنهايمر" لهذه الطريقة إلا أن الاستعادات الزمنية فيه هي بدورها مثل تلك النقلات الزمنية المعاكسة في "ميمنتو". هذا ما دفع نقادا أميركيين (وبعدهم مترجمون) للقول إن أفلام نولان لعب في الزمن من دون الرجوع إلى الفيلم المذكور أو سواه لتأكيد هذا الاهتمام الذي يتابعه نولان عبر أفلامه.
في حين نجد موضوع الزمن والزمن الموازي في غالبية ما يحققه نولان من أفلام، فإنّ ما فات العديد من النقاد، شرقا وغربا، حقيقة أن "ميمنتو" حاضر في هذا الفيلم عبر وسائل أسلوبية أخرى أهمها استخدام الأبيض والأسود في مواضع واللجوء إلى الألوان في مواضع أخرى. إذاً هي ليست عملية اللعب بالزمن أو الاهتمام بتجسيده من خلال مواضيع نولان فقط، بل هناك الانتقال بين الألوان لتأكيد مضمون أبعد من أن يكون زمنيا فحسب.
في "ميمنتو" الذي يسرد فيه المخرج الأحداث مقلوبة، هناك استخدام للأبيض والأسود لمشاهد مستقبلية، واستعانة بالألوان في المشاهد الاستعادية. هذا على عكس المعهود في الأفلام التي تنتقل ما بين الأبيض والأسود فتخصصه للماضي وتخصص الألوان لسرد أحداث في الحاضر.
المنوال نفسه في "أوبنهايمر": الحكاية الحاضرة ملوّنة. المستقبلية (مشاهد المحاكمات) بالأبيض والأسود. بما أن نولان لا يستطيع مباشرة الحديث هنا عن الزمن كفلسفة أو كأي شيء آخر نظرا لأن الفيلم هو سيرة ذاتية وليس خياليا، فإن استخدام الأسلوبين معا هو تعليقه الوحيد على الفترة الزمنية مقسّما إياها بين حاضر ومستقبل، كما كانت حال الفيلم السابق الواقع بين الحاضر والماضي.