عشت خلال الصيف عزلة موقتة، اغتنمتها فرصة للابتعاد عن الزحام إلى قرية نائية تقع في أحضان غابة جبلية من جبال الأناضول، وذلك ومن أجل هدف وحيد، هو إنجاز روايتي التي تعاني من الفوضى، والتي بدأتُ بها منذ عامين، لتمرّ الشهور مع بطء المنجز، ويعلو القلق مع الوقت المهدور في الحياة اليومية في كل أمر سوى في كتابتها، فبالنسبة إلى الروائي الحياة هي الرواية فقط، هي الأهم، وكلّ ما غيرها هامشي.
حين أخذ الانتظار حجما مسرفا، لم يعد أمامي سوى حمل حقيبتي الصغيرة والسفر إلى تلك القرية النائية البسيطة والعيش وسط أناسها الطيبين، وهم قلة قليلة تسكن أكواخا خشبية. فاستأجرت كوخا صغيرا لا تصنّع فيه ولا تكلف، له نافذة تطلّ على عرائش العنب ومياه نهر صغير يمرّ من هناك، لأكتشف لذة العيش فوق ماء عذب، وأرض ممتلئة تروي غريبة مثلي.
من نافذة الكوخ المطلة على الكروم الخضراء وعلى ذلك النهر الصغير، أستبين حصواته الملونة، أجلس على ضفاف القلب، حيث مقاعد وطاولات تُتخَذ مجالس بين مياه النهر، شرط أن تضع قدميك حافياً في المياه، لأشعر بأنني أصبحت شاعرة تحاول المرور بين أنغام الماء التي تعزف على قدمي، ولأكتب طوال ساعات الصباح والمساء، لا أنهض سوى للتريض ساعة ثم أعود، وكل من حولي في تلك الأكواخ يحاولون جاهدين مساعدتي بمحبة، فهم يحترمون الكاتب ويقدرونه.
لم يكن هناك صوت سوى صوت الشلال المنهمر، والعصافير بين الأغصان، وهواء الصيف العليل، وكل ما كان عليّ فعله في هذه الوحدة الخصبة هو تجنب الفوضى، فقد وصلت إلى المراد، مراد كتابة عمل مؤجل، وعليّ الانكباب عليه بكل جوارحي، فليس هناك دقيقة واحدة لأخسرها، وكما وعدت نفسي، فإن الكتابة تنطلق من رؤية جديدة وليس من موقف جديد، ولعل هذه الرؤية الجديدة لا تأتي إلا من خلال مشاهدة فكرة إبداعية وإمعان التفكير فيها، بما يكفي لاحتضانها، وستنبت بلا شك، مع البذرة الخفية التي ستغذيها المعرفة والبحث مع الخبرة المتراكمة.
كل نافذة لها سرّها، أنظر من خلالها قبل الخروج إلى فناء الكوخ والجلوس أمام النهر الناعم الطفولي، حيث أعاود النظر إلى النافذة وأنا خارجها، متسائلة كيف تراني يا ترى؟
في هذه العزلة فتحت لي الكتابة أبوابها أمام رؤى النافذة التي أطلّ منها كل صباح ومساء، والتي أطلقت عليها اسم النافذة السر، فكل نافذة لها سرّها، أنظر من خلالها قبل الخروج إلى فناء الكوخ والجلوس أمام النهر الناعم الطفولي، حيث أعاود النظر إلى النافذة وأنا خارجها، متسائلة كيف تراني يا ترى؟
أكتب في هذه القرية النائية، والكتابة بالطبع ليست سباقاً، فقط أكتب ما في القلب، بعد بحث في تاريخ قد ظلمناه معنا، في أرضنا، وذاكرة محفورة بالألم لتفاصيل ومواجهات مؤلمة لشخوص الرواية، فحتى النسائم الطيبة العابرة أمام النهر لا تجعلني أعدل عن الحفر في تلك الذاكرة، فكما قال الكاتب ستيفن كينغ يوماً: "اقتل من تحب وأنت تكتب، ولا تكسر قلب الكاتب الأناني الذي بداخلك. وأخلق التوتر فوراً، وابحث عن الحلول في كل القلق المصنوع، فالكمال في الكتابة صوت القسوة".
في خضم الكتابة أترك الحاسوب لأتأمل، ولا أجد مكاناً أمشي فيه سوى النهر أخوض فيه حافية، في أرضه وقلبه الممتلئ بالأحجار الصلدة الناعمة الملونة وأوراق الشجر الساقطة، وأنظر الى هذا الجريان، لا بد أن الأنهار الكبرى قد تآمرت على نهري الصغير هذا يوماً ليصبح بهذا الحجم، وهكذا الإنسان ومؤامراته، وكذلك الرواية التي تشبه الطبيعة في مؤامراتها، تتدفق كالنهر الشفاف بضوئه وصوته، وأفيض بدوري كالنهر مع الشعور بالوحدة المنضبطة، ولا أفعل في عزلتي هذه شيئاً سوى كتابة الرواية التي تعاني من الحب والفوضى الخضراء.