دمشق: على الرغم من اتساع دمشق واكتظاظها الصاخب، والثقل العمراني المهيمن على العديد من مناطقها، وعلى الرغم أيضا من صورتها الثريّة المتراكمة عبر التاريخ، إلا أن الواصلين إلى العاصمة السورية، بل حتى سكانها، يتحسّسون طريقهم إلى أحيائها القديمة، مختزلين العاصمة بتلك المداخل الضيقة والحارات المتعرّجة. كثير من السحر يمكن اقتفاؤه هناك، سحر يمكن اختزاله بثقافة رمزية خاصة، تجعل دمشق برمتها تتكثّف في باب شرقي وباب توما. كأن المدينة هي هذان الحيّان.
يكمن جمال دمشق، على مرّ الحقب، خلف زاوية معينة أو جهة محدّدة، على الزائر أن يخطو إليها ويتجه نحوها. كل خطوة تتكشف عن رونق القديم فيها، والحاجة الماسة إلى التعلّق بذلك القديم والبقاء لأطول وقتٍ ممكن، فجمال المدينة يكمن في الجهة الشرقية من المدينة القديمة في باب توما وباب شرقي.
لعلّ أبلغ تعبير عن هذا الجمال، هو وصف الشاعر السوري نزار قباني حين قال: "هل تعرفون ما معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة" حيث يقبع في حارات دمشق القديمة.
ما إن يصل السائحون إلى دمشق، سواء أكانوا من أبناء المدن السورية، أم الدول العربية أو الأجنبية، سيعرف الدمشقيون وجهتهم، من هيئاتهم الخارجية أو لهجاتهم المختلفة أو الفضول الظاهر عليهم، وقبل الانتهاء من سؤالهم عن وجهتهم، ستشير أصابع سكان المدينة إلى الشارع المستقيم الذي لا تشوبه أي تعرجات أو نتوءات، يتحتم على الزائر قطع مسافة 1570 مترا هي المسافة التي عبرها القديس بولس الذي مشى من كنيسة حنانيا، حاملا على ظهره المسيحية إلى أرجاء أوروبا. يتدرج الزائر المنقّب عن الجمال على أرصفة ضيقة تكاد تسمح بمرور شخص واحد، إذ يصل عرض الشارع المستقيم إلى 26 مترا، وقد بُني على النمط اليوناني الشبيه بأسلوب المخطط الشطرنجي الهلنستي الذي يقسم الشوارع الصغيرة أحياء أصغر. يمتد الشارع من باب الجابية، غرب المدينة القديمة، إلى باب شرقي، شاطراً المدينة شطرين، شماليا وجنوبيا، أحدهما شارع باب شرقي، والثاني سوق مدحت باشا، ليستريح الشارعان التاريخيان عند قوس النصر الروماني الذي يشغل مساحة وفيرة في قلوب السوريين من عقود طويلة.