يتوهم كثيرٌ من السياسيين في العراق، سواء كانوا يعلمون أو لا يعلمون، في وصفهم الواقع السياسي الذي نعيشه بـ"الدولة". لذلك فهم عندما يلوحون بخطر الانزلاق نحو الهاوية بفقدان الدولة، لا يجدون لذلك التهديد صدى لدى المواطن العراقي، لأنه متيقن تماما بأنه يعيش في ظل اللادولة، ومن ثم لا يمكن التهديد بأسوأ من هذا الواقع.
ويبدو أن المشكلة أكثر تعقيدا من فهم الطبقة السياسية، فالعراق لا يزال في صدارة قائمة الدول الفاشلة أو الهشة؛ وعند التدقيق في مؤشرات هذا الوصف نجدها تدور حول محور يتركز في عجز الدولة عن القيام بوظائفها الرئيسة، وأهمها: معالجة الفقر والتدهور الاقتصادي، والمشاكل بين المكونات، وشرعية الدولة، والخدمات العامة، والمنظومات الأمنية، والفصائل السياسية، والتدخل الخارجي، واللاجئون والمشردون.
اللادولة في العراق– مع الأسف- تمثل الواقع القائم، وما عدا ذلك خطابات وشعارات نقدية ولا يمكن أن نعده تشخيصا حقيقيا لأس المشكلة. والكيان السياسي العراقي يشبه ذلك الكيان المسخ في رواية فرانكشتاين. فهي لم تكن يوما نتاج عقد اجتماعي، وإنما نتاج لإرادة خارجية فرضت وجودها، وبقيت عبارة عن تجمع مكونات طائفية وعرقية وليس الشعب بأكمله.
اللادولة في العراق لا تنحصر ملامحها في سيطرة الميليشيات وغياب القانون وسيطرة المافيات السياسية، وإنما يتم تقزيم الدولة عندما يبدأ الصراع بين زعامات سياسية تريد تمركز القرار السياسي في يدها وإقصاء خصومها، ليس بالطرق الديمقراطية، وإنما بالاستئثار بمراكز السلطة والنفوذ، وبالنتيجة كانت الضحية الأولى هي الدولة وعملية التحول نحو الديمقراطية. لذلك كانت أبرز نتائج الصراعات السياسية، ديمقراطية متسربلة بالدم، وليس انتقالا سلسا نموذجيا نحو بناء دولة المؤسسات.
لم تنتج لنا الطبقة السياسية التي تولت زمام الحكم بعد 2003 غير دولة فاشلة، والمصيبة الأكبر أنه حتى هذه الدولة الفاشلة عجز السياسيون عن إبقائها في مستوى محدد من الفشل والهشاشة؛ إذ عملوا العكس من ذلك بفتح المجال أمام قوى وعناوين ما قبل الدولة لمصادرة وظيفة الدولة وتحويلها إلى "دولة موازية". ولذلك باتت المهمة الرئيسة للمنظومة السياسية هي تحطيم بقايا الدولة من جهة، والبكاء على أطلالها من جهة أخرى.
هنالك فجوة ثقافية ومعرفية بين الدولة كفكرة ومفهوم، وبين أحزاب السلطة وزعامتها سواء على مستوى الخطاب السياسي أو المواقف السياسية؛ فمن يبرر لشرعية السلاح المنفلت تحت عناوين مختلفة، ومن يطالب بضمان حق المكون وهو بيده الحكم ويسيطر على القرار السياسي، قطعا لا يعرف معنى الدولة باعتبارها المؤسسة العليا التي تعبر عن كيان الأمة المتعالي عن التناقضات الاجتماعية والتي تصهر جماعات وتنوعها وتقوم بوظيفة حماية المجتمع وتحقيق طموحاته.
ولم تحترف الطبقة السياسية وزعامتها في العراق إلا في ترسيخ ثلاث ركائز قضت على روح الدولة وأصابت كيانها. الركيزة الأولى كانت سياسة تغييب مفهوم الأمة العراقية والمواطن العراقي، واستبدلتها بمفاهيم حقوق الطائفة والقومية والمتاجرة بهذا العنوان في كتابة الدستور وتوزيع المناصب العليا.
أما الثانية، فهي تحويل موارد الدولة ومؤسساتها إلى إقطاعيات سياسية لهذا الزعيم السياسي أو لذلك الحزب، وهناك شرعنة الفساد السياسي والمالي والإداري، ومن ثم باتت موارد الدولة تجير لصالح البقاء في السلطة وإدامة النفوذ. والركيزة الثالثة التي أصابت قلب الدولة هي إلغاء كل ما يتعلق بمفاهيم سيادة الدولة، وباتت التدخلات الخارجية والإقليمية مبررة بدعاوي الدفاع عن هذا المكون الطائفي أو القومي ولحماية حقوقه.
الطبقة السياسية الحاكمة في العراق تستمد عداءها للدولة، كونها تتعارض مع انتمائها القومي والطائفي، فالكرد رغم أنهم شركاء في تأسيس النظام السياسي في العراق بعد 2003 إلا أنهم يعتقدون أن بقاءهم ضمن خارطة العراق هو لضمان مصالحهم وليس شراكة حقيقية في الوطن، والمشروع الأكبر هو دولة قومية منفصلة عن الدولة العراقية، وهذا هو الركن الأساس في أزمة التفكير السياسي الكردي إزاء الدولة في العراق، والكثير من قوى الإسلام السياسي الشيعي يعتقد أن الانتماء المذهبي أكبر من أن يتم حصره في حدود الدولة العراقية، فالعقيدة أكبر وأهم من تلك الحدود المصطنعة، ولا تجد حرجا في التماهي مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وتبرر تدخلاتها باعتبارها راعية لتجربة الحكم السياسي الشيعي! والكثير من الزعامات والقوى السياسية السنية تعتقد أن الانتماء الجغرافي العربي يبيح لهم تقبل التدخلات الإقليمية ودور بعض الدول في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السنة عندما تشتد الخلافات السياسية.